اشعارات

الانعزالية أبرز سمات التوحد

الانعزالية أبرز سمات التوحد ..أصيب بالمرض في طفولته لكنه تحدى الصعوبات وأصبح من أبرز الكتاب..

سيين بارون: على المعلمين أن يكونوا أكثر حساسية في تعاملاتهم مع الأطفال المصابين بالتوحد

محمود علي

في ظل تزايد أعداد المصابين بالتوحد في الآونة الأخيرة،ثمة عظماء ومفكرون ومؤلفون نراهم يقفون في وجه هذه التحديات والصعوبات ليرتقوا إلى مراتع النور ولينهلوا من العلوم السيكولوجية والمتشعبة في مختلف المجالات، من أجل النهوض بتلك الفئة من الأطفال في سبيل مداواتهم والوصول لسبيل لمداواتهم.

المؤلف الأمريكي سيين بارون من أشهر الذين أصيبوا بمرض التوحد في طفولته، وبرغم ذلك، استطاع أن يتغلب على كل الظروف والتحديات ليرسم بصيصاً من الأمل وشعاعاً من النور تستنير به عقول ودروب فئات التوحد بمختلف اضطراباتها. ويكشف السيد سيين بارون لمجلة "ناتشورال ليرنينج كونسيبتس انكوربوريشن" الأمريكية الكثير عن حياته الطفولية التوحدية وكيف كانت حياته في ظل هذا الاضطراب النمائي الطفولي، وكيف استطاع الوقوف في وجه التحديات إلى أن بلغ مبتغاه.

يبدو من الحوار التالي أن أدوات الغزل والخياطة وفتح وغلق الأنوار والرمي بالأشياء والسلوك المتعنت هي بلورة لجل ما قضاه سيين في حياته الطفولية التوحدية. واليوم هو معافى من التوحد. ويبين هنا بوضوح السبب في إحساسه بالحاجة إلى الانخراط في السلوك الطقسي الاعتيادي الذي يصعب على الكثير منا فهمه. وكتب سيين تكشف منظوراً مدهشاً ووجهة مشرقة للحياة فيما يتعلق بطيف التوحد.

* ما هي السن التي أصبحت فيها قادراً على النطق وما كانت توقعاتك وتنبؤاتك في هذا الوقت؟

في الحقيقة لم أستخدم الكلمات إلا عندما اقتربت من سن الخامسة (غير أنه كان باستطاعتي معرفة الوقت). وعندما أتت اللغة إلي، كانت متكلفة ومنمقة باللفظ الصدوي (ترديد أصوات الآخرين)، حتى أنني دائماً ما كنت أشير إلى نفسي بضمير الغائب. أما بالنسبة للتوقعات والتنبؤات فقد كانت متجهمة مظلمة. شخصت عام 1965 من قبل أحد الأطباء والذي ظن، مثله مثل كثيرين من الاختصاصيين في ذلك الوقت، بأن التوحد هو الشيء الذي يلي الحكم بالإعدام. وفي الحقيقة، لم تكن المشكلة فيما إذا كان سيتم إدخالي إلى مؤسسة للمعالجة، وإنما القضية كانت كامنة في التوقيت الزمني.

* هل استمتعت وأنت طفل بلعب نفس الألعاب التي يلعبها أقرانك؟ وإذا كانت الإجابة لا، فماذا كانت اهتماماتك؟

** قبل التحاقي بالروضة، كنت معزولاً للغاية إلا وقت اللعب مع أختي الصغرى ميجان. قضيت السنوات الأولى من حياتي منصباً على أدوات الغزل والخياطة وفتح وغلق الأنوار فضلاً عن معالجة الكثير من الأشياء والتحكم بها مثل لعبة البناء التخيلية " تينكر تويز/ أول من صممها تشارلز باجو وروبرت بيتي". وكنت أبتكر أصنافاً وأدوات أخرى لاسيما عندما أتجمع مع الناس وتحيط بي الأشياء. كل هذا كنت أقوم به في محاولة لخلق النظام وسط هذه الفوضى.

* ما هي السن التي أحسست فيها أنك مهتم بأقرانك، ومتى قمت بعقد الصداقات؟

** لم يحدث ذلك إلا بعد أن بلغت السادسة عشرة عندما انتقلنا من أوهايو إلى كاليفورنيا. ولحسن الحظ، وجدت نفسي في مدرسة جديدة عرف كل من فيها خلفية بالمشاكل والاضطرابات التي ألمت بي، وكانوا على إلمام بتاريخ مفصل عن كم المضايقات وأفعال التأسد والتنمر (التي تخلق المضايقات) المتعلقة بي ... إلخ. بدا وكأن الطلبة بمدرسة سيلمار كاليف أكثر سماحة فيما يتعلق بالسلوك المقبول أكثر مما وجدته ولمسته في مدرستي السابقة. هذا الأمر جعلني أكثر ارتياحاً لأستهل وأسلك طريق الانفتاح من أجل عقد الصداقات. وفي نفس الوقت، كانت أختي تحظى بمجموعة من الأصدقاء، وقمت تدريجياً بالتودد والفوز بحظوتهم شيئاً فشيئاً، ووجدت قبولاً طيباً. وفي المرحلة الحادية عشرة من الدراسة، خرجت مع العديد من هؤلاء الأصدقاء بهدف اللعب في المدرسة. حقيقة، كانت هذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها أحداً مشاركة اجتماعية. يبدو هذا لكثير من الناس بأنه حدث نمطي روتيني، ولكن بالنسبة إليّ كان هذا الحدث الاجتماعي بمثابة الوحي.

* هل يمكنك أن تصف لنا بعض السلوكيات النمطية المتكررة التي كنت تتقيد بها وأنت طفل، وأن تفسر الغرض من هذه السلوكيات؟

** اشتملت هذه السلوكيات، وإن لم تكن مقصورة ومحدودة على ما أصف لكم، على الرمي بالأشياء نحو الشجرة الموجودة بالفناء الخلفي حتى يمكنني مشاهدة الأشياء وهي تسقط، أو وأنا أمسك بها. هناك أيضاً فتح وغلق الأنوار، والفرجة على مروحة المغسلة وهي تدور، ومن ثم معالجة العديد من الألعاب والأشياء. وتوحيد كل هذه السلوكيات ودمجها مع التصرفات والأفعال الأخرى المشابهة كان هدفه البحث من أجل تحويل هذه الفوضى الخلاقة الصاخبة إلى مظهر من مظاهر النظام، في حين أن الانفصال والانعزال كان محاولة لإيجاد معنى عقلاني للبيئة التي أعيش فيها.

* هل بإمكانك أن تصف لنا بعض القواعد التي تقيدت بها وأنت طفل، وماذا كان رد فعلك في حال لم تسر أو تئُل الأشياء إلى الوضع الذي تكهنت وتنبأت به؟

** طالما أنه كان يسهل التحكم بالأشياء إلى حد بعيد والتنبؤ بالنتائج التي تأتي معاكسة ومغايرة لما يعتقده الناس، قمت بابتكار شتى القواعد للناس على مدار هذه السنوات. وقمت بذلك من منطلق التجربة وكذا من أجل تهيئتهم لوضعهم في صندوق الأصناف والأنواع حتى يمكنني التسهيل من عقدتهم وصعوبتهم. كنت تقريباً وبشكل دائم أقوم بابتكار هذه القواعد القائمة على بعض من الثبات وعدم التغيير. على سبيل المثال، كنت أهتم كثيراً وأشغف بحافلات المدرسة خلال سنواتي التعليمية في المراحل الوسطى. أحببت مشاهدتها وهي مصطفة في باحة الانتظار الخلفية المخصصة لها وذلك قبل انتهاء اليوم الدراسي، ودائماً ما كنت أسعى لكي أكون آخر من يستقل هذه الحافلة. وعلى نحو مماثل، قمت بابتكار وترسيخ قاعدة وهي أن يأتي الثلاثة أفراد في الأسرة لتناول الإفطار على المائدة على مدار الأسبوع في الصباح بنظام معين ( وهي الطريقة التي تشبه كثيراً الطريقة التي تصل بها الحافلات المدرسية كل يوم بعد الظهيرة). وفي حال تم كسر هذه أو أي من القواعد والقوانين المشابهة، أشتاط غضباً لدرجة أنني ربما أندفع إلى تصرف وسلوك أهوج. وفي حال تم الإخلال بقاعدة مائدة الإفطار في الصباح وتم كسرها، لم يكن غريباً عليّ أن أرجع من المدرسة في هذا اليوم وأنا أفتقر إلى أي مخزون عاطفي. وما يدعو إلى الإثارة والاهتمام، أنني أرى من وجهة نظري وعلى قدر فكري أنه أن تنزل أسرتي إلى الطابق السفلي بنظام ووضع معين لهم يرغبون به في نهاية الأسبوع يبدو حسناً وطبيعياً لاسيما وأن الحافلات لا تكون مسرعة أو في عجلة...!!

* كم كان عمرك ومتى شعرت وأدركت بأنك مختلف عن الآخرين، وما الذي تسبب في حدوث مثل هذا الوعي؟

**يمكنني القول بأن هذا تبادر إلى وأنا في سن الخامسة عندما التحقت بروضة الأطفال. أدركت سريعاً الفجوة الاجتماعية الواسعة والتي كانت واضحة ومتعمقة بيني وبين التلاميذ والأطفال الآخرين. الكثير من الأطفال كان يتجنبني أو يتجاهلني أو حتى يضايقني والسبب أنني كنت معزولاً اجتماعياً ولم تكن لديّ أدنى فكرة عن كيفية الارتباط بهم.

* كيف كانت علاقتك بأسرتك وأنت طفل، وكيف هي الآن؟

**كنت أحظى بعلاقة وطيدة مع والدتي ووالدي وأختي، هذا النوع من العلاقة الذي يتبادل فيه كثيرون ممن أحبهم وبصورة نمطية قول "أحبك". وعلى الرغم من ذلك، كانت علاقتي مع أسرتي أثناء طفولتي، وفي مرحلة المراهقة وحتى في سنوات البلوغ الأولى مضطربة جداً. والسبب الأكبر في ذلك أنهم كانوا يحاولون الوصول بكل ثبات إلى هذا الشخص الذي يشعرون بأنه دخل في مصيدة وقبضة التوحد المخادعة، في وقت كان عليهم الوقوف ضد خلفية السلوكيات النمطية المتكررة والمحبطة، والافتقار إلى الاتصال والتآزر بالعين فضلاً عن المشاكل والاضطرابات الاجتماعية. كنت أشعر بالسعادة الغامرة لاسيما وأن تيقنت مدى الحكمة التي تحلوا بها في معرفة أنني لم أرغب أن أكون على هذا المنوال وهذه الطريقة التي كنت عليها، ولذا دخلت في معركة من ناحيتي كثائر أو مجنون.

* هل لديك أية إنجازات تود ذكرها؟ (مثلاً إجازات في التعليم، إنجازات في العمل، أو إنجازات شخصية؟

** ربما لا تبدو مثيرة ومدهشة، حيث إنني أشعر بأن أغلب إنجازاتي التي أعتز بها هي تلك التي حققتها فيما بعد التوحد. فزت بالكثير من أوسمة الشرف وكم لا بأس به من المكافآت نظير كتاب " ثمة طفل ما هنا " والذي فاز أيضاً بجائزة منظمة بيج برازرز بيج سيسترز لهذا العام في 1998. حزت أيضاً على لوحة شرفية لكوني عضواً في وزارة السجون المتنوعة أواخر التسعينيات حيث إنني قمت بعدد كبير من الزيارات للنزلاء والسجناء بمصلحة السجن الخاصة. وقد عملت مرة أخرى في مركز الهاتف المحلي الخاص بحل الأزمات، حيث قمت فيه بتقديم المساعدة والعون لأناس في أزمات أو على وشك الانتحار بعد أن عانوا عشرين عاماً من الهوة والعزلة. وقد عملت مسبقاً في هذا المركز في فترة الثمانينيات (وكنت أعمل حينها وأنا أعاني من التوحد). والآن، وبعد أن بت أكثر إعدادا وتهيئة لمساعدة الآخرين، رغبت في إحلال واستبدال خبرتي وتجربتي السابقة في المجالات الإيجابية الراهنة، والعودة لا شك إلى المشاركة الاجتماعية في المجتمع.

* هل لا زلت تعتبر نفسك من بين هؤلاء المصابين بطيف التوحد؟

** لا أعتقد ذلك حيث إنني أعتبر نفسي قد شفيت وبرئت من هذا الاضطراب. فأنا الآن أستخدم كلمة "معالج" كمضاد لكلمة "شفي" لأن بعض الناس تشعر وكأن التوحد شيء لا يمكن الشفاء والإبراء منه. ومع ذلك، لا شك أن التوحد يعيق من قدرتي على الأداء الوظيفي بصفة يومية إضافة إلى التدخل لإفساد رغبتي في المشاركة الاجتماعية والعمل أو الكد والسعي من أجل عيش حياة طبيعية.

* في أي سن توصي بضرورة إخطار وإخبار الأطفال بهذا التشخيص؟

** لا أشعر أو أظن بأن هذا يتعلق بالسن في حد ذاتها، وإنما أعتقد أن هذا يرجع إلى الوقت الذي يشعر فيه الآباء بالاستعداد والتهيئة. تم تشخيصي في سن الثالثة، وكان والدي ووالدتي صريحين معي حين أخبراني بصورة مباشرة، وذكراني بهذا التشخيص في العديد من المناسبات في السنوات التالية. ومع ذلك، فإن عجزي وعدم قدرتي على التفكير بصورة مجردة حال بيني وبين فهم ماهية ومعنى التوحد، غير أنني فهمت بعد هذا بكثير.

* هل تشعر بإهانة عند الإشارة إلى شخص ما بـ صفة " توحدي " بدلاً من " شخص مصاب بالتوحد"؟

لا أشعر بإهانة بقدر شعوري وإحساسي باليأس وتثبيط الهمة. أنا مؤمن يقيناً، دون أن ألجأ إلى الكياسة السياسية، بأن الشخص في المقام الأول، ثم الإعاقة في المرتبة الثانية. أغلبنا لا يتم الإشارة إليه على أنه فرد تم تشخيصه بأنه مصاب بسرطان بأن تقول: شخص السرطان ".!! وبالتالي، فإن هذا التشخيص يعني أنه متعلق أو خاص بطيف التوحد.

* إذا كان عليك أن تنصح المعلمين بشيء، فما الذي تنصحهم به؟

** في الواقع بكل ما ذكرته آنفاً، غير أن عليهم أن يكونوا أكثر حساسية وإحساسا بتلك الحقيقة التي تفضي إلى أنه في حال مقابلتك لشخص مصاب بالتوحد، عليك أن تتجنبه أو بمعنى آخر، عليك أن تصنفهم كلاً على شاكلته. ومما لا شك فيه أن الضرورة والأهمية تقتضي ترسيخ قواعد في الفصل المدرسي ينبغي الاتساق والالتزام بها ، وعليك أيضاً أن تفهم جيداً أن طفل التوحد ربما يخل أو يكسر قاعدة لأسباب عدة، وهذا بالإضافة إلى مقاومتهم التامة واختباره لرغباته وميوله.

http://www.al-sharq.com/articles/more.php?id=145523
 

عودة
أعلى