اشعارات

العمل التطوعي ممارسة حضارية أم وجاهة؟!

العمل التطوعي ممارسة حضارية أم وجاهة؟!

حسن علي الزهراني
في ظل انحطاط أمتنا يظن البعض أن العمل التطوعي نموذج غربي حديث يمثل ظاهرة حضارية للمجتمعات الغربية المعاصرة، وهو ولاشك كذلك إن نظرنا إليه في هذه اللحظة التي نعيشها من عمر الزمن، فالقوم هناك قد جعلوا منه إحدى الدعائم القوية لأنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسنوا من أجل تسهيل ممارسته الأنظمة والقوانين، وتسابق من أجل المشاركة فيه على المستوى الفردي علية القوم، فتسنم رجال الأعمال رئاسة الجمعيات التطوعية الخيرية -هم وأزواجهم-، حيث يتربع بيل جيتس وزوجته مليندا القمة في دعم هذه الأنشطة، ولك عزيزي القارئ أن تعقد مقارنة بين ما يفعله الكثير من رجال الأعمال والشركات والبنوك هناك وبين ما يمارسه قومنا، فبينما يتبرع الأثرياء وكبار رجال الأعمال هناك بثرواتهم بسخاء منقطع النظير يقوم بعض تجارنا وللأسف بالبحث عن كل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة للانقضاض على المدخرات البسيطة للفقراء، وتأمل كيف سارع بعض قومنا خفافا وثقالا لتبني نظرية المتاجرة مع الفقراء أو مع الجمعيات الخيرية وتناسوا الممارسات الأخرى في البذل والعطاء، في انتقائية واضحة من الحضارة الغربية لا يعلم سوى الله دوافعها!.
بل أنظر إلى ما حدث ويحدث في الاكتتابات وسوق الأسهم لترى بأم عينيك أن الرحمة بالضعفاء قد وصلت إلى أدنى مستوياتها لدى الكثير من أتباع نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم، فالبعض يعيش متلازمة عجيبة -أو ما يسمى بالسندروم المرضي المتمثل في جملة من التناقضات العجيبة-، فهو غربي الهوى إن تعلق الأمر بالتحرر والانفتاح والممارسات السيئة في حضارة الغرب، إلا أنه بالمقابل معاد لدروشة! أو تفاهة بيل جيتس -على حد زعمه- في صرفه لملياراته على أبحاث مرضى الإيدز أو المشاريع الصحية في إفريقيا، وكأني بصاحبنا يقهقه ضاحكا متندرا على أريكته قائلا: "الذي عنده فلوس تحيره، عليه بشراء حمام ويطيره!" وهو المثل الشعبي الدارج الذي يشير إلى سطحية في تفكير بعض أصحاب الأموال، ثم يستعين للتأكيد على عدم جدوى فعل جيتس وأمثاله ومبررا لنفسه تقصيرها في حق مجتمعها بالتأكيد على عدم سلامة معتقد ذلك المنفق والتشكيك في توجهاته ومقاصده، لافتا النظر إلى أياديه البيضاء في بناء مسجد هنا أو هناك قد لا يمثل نسبة 0.0005% من ثروته الطائلة.
لقد تنبهت أمم الغرب المتحضر إلى أهمية ثقافة العمل الخيري التطوعي فضمنت ذلك في مناهجها التعليمية لما دون الجامعة، ثم كرست لذلك التوجه في تعليمها الجامعي فنصت مناهجها على ساعات تعليمية مسجلة لها درجاتها يجب على الطالب الجامعي أن يقوم بها كمتطلب من متطلبات التخرج، ولم تكتف بذلك بل وفرت لمواطنيها من الدورات التطوعية التي تخدم المجتمع المئات ومنها على سبيل المثال في المجال الصحي دورات الإنعاش القلبي الرئوي ودورات الإسعافات الأولية وغيرها، أما على مستوى المجتمع فقد وفرت لمواطنيها دورات في التطوع في حالات الكوارث والحروب، فأعداد المتطوعين في العسكرية - مثلا- تشكل الجزء الأكبر من عديد القوات المسلحة وقطاعات الدفاع المدني، ويسرت لكل راغب في العمل التطوعي السبل من أخذ الإجازة بدون مرتب أو المكافأة المقطوعة لتغطية نفقات السفر والتجهيز - دون تعويض على العمل التطوعي طبعا!-، وسمحت لعشرات ومئات الألوف من الجمعيات التطوعية بممارسة أعمالها، ففي أمريكا أكثر من مليون ونصف المليون جمعية تطوعية، وشجعت أصحاب رؤوس الأموال على التبرع السخي لهذه الجمعيات - عكس ما يحدث عندنا تماما حيث تحقق البنوك أرباحا طائلة ناتجة عن تورع المجتمع عن أكل الربا ثم تزعم بأنها بنوك ناجحة، وأن أرباحها نتاج لعبقرية إداراتها-، فأين بنوكنا من تدبر قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك)؟!، إننا أمام فهم منقوص لديننا دين السلام والرحمة! .
لا أبالغ إن قلت بأن الغربي - مسيحيا كان أو يهوديا- يعد العمل التطوعي مفخرة له يضمنها سيرته الذاتية حيثما حل وارتحل، فالكثير من جهات العمل والتوظيف تعد الانخراط في مثل هذه الأنشطة نقطة إيجابية هامة تسجل لصاحبها، ولأن المجتمعات المتحضرة تثمن قيمة العمل التطوعي فلقد استفاد منه ولاشك الكثير من الانتهازيين كقنطرة للوجاهة الاجتماعية، وبالذات ممن مارسوا أعمالا لا ترتفع بهم إلى مصاف النخبة الاجتماعية المؤثرة في تلك المجتمعات كالمغنية الشهيرة مادونا- وغيرها من الممثلين والممثلات-، فلقد تحولت مادونا مؤخرا بعد خفوت بريق الأضواء عنها نتيجة لتقدمها في السن إلى العمل الخيري في إفريقيا، على غرار بريجيت باردو التي تناضل من أجل الحيوان أكثر مما تفعل للإنسان، وليس الهدف الحديث عن هذه الفئة لقوله تعالى (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)!.
السؤال الذي يلح علي وبقوة هل أعمالنا اليوم -أقصد الأمة المسلمة- مطابقة لما كان عليه صدرها الأول في أعمال التطوع؟!، كنت أظن بأن الجواب هو (لا) كبيرة لما نلمسه جميعا من تقاعس وتقصير للمجتمع بأكمله -إلا ما رحم ربي، وهم القلة ولا حول ولا قوة إلا بالله - حتى شاء الله لي حضور ملتقى طبي طلابي للعمل التطوعي نظمته مشكورة لأول مرة وكالة الكلية للجودة والتطوير في كليتنا فانبعث الأمل في نفسي من جديد بأن الخير في أمة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وأن المستقبل مشرق لو قمنا بدورنا في دعم هذا التوجه الخير، فمن هؤلاء الشباب والشابات من يحتاج إلى التوعية وهو ما قام به الملتقى، ومنهم من يحتاج للدعم المعنوي المتمثل في تثمين المجتمع والجامعات لما يقومون به، كما أن الجمعيات المختصة التي تتيح لهم فرصة العمل التطوعي تحتاج إلى المزيد من الدعم النظامي والمادي، فلقد كانت هناك جمعيات متخصصة مثل جمعية الهلال الأحمر السعودي بمنطقة مكة المكرمة وجمعية زمزم للخدمات الصحية التطوعية وجمعية الإيمان للخدمات الخيرية ورعاية مرضى السرطان وجمعية التوعية بأضرار التدخين والندوة العالمية للشباب الإسلامي وفريق الأيدي المتحدة، وهي جمعيات خيرية يدعمها الخيرون من رجال الأعمال المؤمنين بأهمية العمل الخيري التطوعي، والمطلوب هو دعم الموجود من هذه الجمعيات وبقوة ومن ثم التوسع في إنشاء المزيد منها في كل مدينة وقرية في بلادنا الغالية.
لقد كان هذا الملتقى مصدرا لسعادة الكثير ممن حضر، والمرجو أن تقوم كل جامعة وكلية بتبني هذا التوجه، وأن يرافق ذلك دعم مادي ومعنوي من أهل الخير، ففي ذلك الأجر والثواب من الكريم المنان، والذكر الحسن في الدنيا أو قل الوجاهة الاجتماعية المستحقة، ففي الشباب والشابات طاقات وعقول قادرة على نقل العمل التطوعي في بلادنا نقلة نوعية ترضي الرب عز وجل، ثم تقر أعين ولاة الأمر والمجتمع وأولياء أمور هؤلاء الشباب والشابات شريطة أن يتم توفير الدعم لهم .
لا داعي للتخوف من العمل التطوعي - إن كان ثمة تخوف-، فأنشطته إن تمت تحت سمع وبصر المجتمع أنشطة حضارية متعارف عليها عالميا، إنها أنشطة تخفف العبء عن الدول والمؤسسات الحكومية المعنية، وتعزز مشاركة الشباب في هموم مجتمعاتهم، إنها تنمي عقولهم وتفجر طاقاتهم وتصقل مهاراتهم وتشحذ عواطفهم وتوقظ ضمائرهم لما فيه الخير لوطنهم وأمتهم.
ومع ذلك فلا بد من أن يمتنع- أو حتى ُيمنع- طالبو النفع الخاص من مال وجاه وسمعة من الانحراف بالعمل التطوعي عن أهدافه السامية إلى أجندات خاصة ضيقة تسيء إلى فكرته، وتنزلق به في أوحال مظاهر شكلية تفرغ العمل التطوعي من مضمونه وتصد المجتمع عن الاهتمام به، والأمثلة في هذا المجال كثيرة قد لا يكون من المستحسن ذكرها، لأن الدخول فيها يعني الدخول في النيات التي لا يعلم حقيقتها إلا رب العباد، ويبقى العمل التطوعي كغيره من الأعمال محكوما بنية صاحبه : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) الحديث.
* أستاذ جراحة الأوعية الدموية
 

عودة
أعلى