بداية نهاية

رحّال

عضو جديد
( بداية نهاية )









محمد – هو موظف عادي ، يعمل بقسم الملفات في مركز صحي بالقرية البسيطة منذ عشر سنوات.


في ليلة شديدة البرودة توقع أن يكون له فيها نصيب مع الهادئين بطمأنينة النفس في تلك القرية، عاد فيها إلى منزله المتواضع ، فقبل أن يصل إلى منزله ، تذكر أن يحضر بعض ما ينقصه من ضروريات يومية ، فوضع يده على محفظة النقود وأخرجها من جيبه في عجلة من أمره على الرغم أنه ليس عنده ما يدعوه للعجلة ، فهو على روتين يومي لا يكاد أن يتغير ، قد ضمن له روتينه الكثير من الوقت الممل الذي يعاني منه خارج عمله، ولكنه كان متلهفا لضرورياته عسى أن يسعفه المال عند فتح تلك المحفظة ليرى كم بقي فيها من النقود ، فهو رجل لا يدري كم يصرف على الرغم من قلة دخله الشهري ، فلم يعد عنده حصر المال أو مقدار ما يدخره لأيامه القادمة مهماً ، ليس لديه سوى هم دفع إيجار شقته الصغيرة التي يعيش فيها وحيداً ، وما يحتاجه فقط من ضروريات بسيطة لكي يعيش ببساطة- قد أقنعته ظروفه أن يعيشها بيأس وإحباط عندما تتوالى عليه الظروف الملتوية فلم يكن لديه سوى روتين يأسه الدائم ، متجرداً من أي دافع معنوي.







نظر إلى نقوده بيدين ترتجفان من شدة البرد فوجدها في الرمق الأخير ، فقرر أن يترك جزءاً من ضرورياته في سبيل توفير الأهم منها ، عاد إلى منزله وهو يمشي على قدميه ببعض ما اشتراه ، وكانت ليلة صعبة قاسية المناخ شديدة الرياح والبرودة ، كثيفة الضباب ، تسابقه الخطوة لكي يصل إلى باب شقته التي تقع في الدور السفلي من العمارة الواقعة في أطراف القرية ، أخرج محمد المفاتيح من جيبه قبل أن يصل إلى الباب استعدادا لفتحه بسرعة ، وصل إلى الباب وكأنه لم يصدق أنه وصل أخيرا ، وفي لحظة سقط مفتاحه من يده دون شعور من شدة برودتها ، فأخذه من على الأرض ، وفي تلك اللحظة سمع صوتا ممزوجاً مع صوت الريح ، كان صوتاً غريباً مخيفاً كصوت الذئب ممزوجاً بالأنين والغلظة ، فاختلطت عليه الأمور ، وزادت ربكته ، أراد فتح الباب بسرعة فسقط المفتاح مرة أخرى وهو لا يصدق ما يحدث، فأخذه بسرعة خاطفة وفتح الباب بعد فزع شديد وأقفله بقوة ، رمى أغراضه بسرعة على الأرض وذهب إلى النافذة التي قد اعتاد أن يجلس أمامها دائماً ، وأخذ ينظر يميناً ويساراً في لحظة من الخوف والدهشة مما سمعه ، فلم يكن هناك أي منظر يوحي إليه بشيء سوى هطول المطر في تلك اللحظة وتزايد الضباب .




فجأة ضحك محمد كثيراً على موقفه الذي حصل وقال في نفسه لا بد أنني كنت أتخيل ما سمعته أو كان صوت الرياح مع اصطدامها بالأشجار المحيطة بالمنزل.



هدأ بعد ذلك روعه وبدأ خوفه بالزوال شيئا فشيئاً ، وقرر أن يعمل له كوباً ساخناً من الشاي ، وذهب ليجلس أمام النافذة التي يحب الجلوس عندها دائماً ..




وأخذ يتأمل في تلك الأجواء المضطربة منتظراً أن تهدأ تلك الليلة المظلمة من ثورتها ، خف المطر قليلاً وهدأت الرياح ، ولكن الضباب ما زال كثيفاً ، وما هي إلا لحظات بسيطة من ارتشافه كوب الشاي حتى سمع ذلك الصوت من جديد وقد ظهر واضحاً له هذه المرة ، جف ريقه فجأة وأخذ ينظر من حوله دون أن يرمش له جفن ، وعاد لينظر مرة أخرى من النافذة..





فلم يرى شيئا سوى الضباب والمطر ، زاد خوفه ، وزادت هواجيسه ، انطلق لكي يتأكد من إغلاق الباب ، ثم هرع إلى جميع النوافذ فأحكم إغلاقها ، توجه بعد ذلك إلى فراشه بعد أن أطفأ الإضاءة ، وقد رمى نفسه بين أحضان بطانيته الثقيلة وجسمه يرتعش برداً وخوفاً ، طار النوم من رأسه ، أخذ يتخيل هذا الصوت مرة أخرى في نفسه ، وقال بل هذا وهم ، لا شك أنه وهم ، قام من فراشه كالبرق فقام بتوصيل الإضاءة وعاد إلى فراشه مسرعاً ، وظل على ما هو عليه حتى ظهور الفجر.




انقشع الغمام وظهرت الشمس ، فنظر محمد من النافذة ولم يكن مصدقاً بأن الشمس سوف تشرق ، وقام بارتداء ملابسه استعدادا للذهاب إلى دوامه اليومي ، خرج من منزله يلتفت يمينا ويسارا ، فمازالت نبرة ذلك الصوت باقية في أذنيه .



ذهب مشياً على قدميه إلى مقر عمله كالمعتاد ، فهو لا يمتلك سيارة ، حتى وصل إلى مكتبه البسيط ، ودخل على زميله عبد الرحمن بوجه شاحب يملأه التعب والخوف ، رمى نفسه على مكتبه واضعا يده على رأسه والأخرى على خده ، سأله عبد الرحمن- ماذا حصل لك يا محمد ؟؟ منظرك لم يعجبني !! فرد عليه أرجوك أتركني في حالي فإني لا أستطيع التركيز ، فقال له عبد الرحمن أرجوك يا صاحبي خبرني ماذا أصابك ؟؟ سكت محمد لبرهة ، فقال أشعر بأن أموراً غريبة تحصل من حولي لم أفهمها ، وأخذ يشرح لزميله ما حصل له البارحة وما قد سمعه .. فقال له عبد الرحمن لا تشغل بالك فما ذلك سوى تخيلات ، وقد توجه له بنصيحة فقال يا محمد إني أقدرك وأريد لك المصلحة ، فإني أراك دائما يائسا محطماً ليس لديك شيء تفعله سوى دوامك وعملك الذي لا يكفيك دخله الشهري حتى منتصف الشهر ، أرجوك يا أخي محمد أن تغير وضعك حتى لو كان بانتقالك من هذه القرية والبحث عن عمل آخر أو على الأقل أن تزرع في نفسك بذرة التفاؤل وأن تترك اليأس قبل أن يحطمك ، رد عليه محمد وقال ماذا تريدني أن أفعل فهذا هو قدري وهذا هو نصيبي. وأرجوك أن لا تزيد المواجع في نفسي فما أنا عليه الآن يكفيني من الهم.



زاد التعب في جسم محمد واشتد الإرهاق فطلب منه عبد الرحمن أن يستأذن ويذهب ليرتاح في منزله ، وقد وعده بأنه سيغطي مكانه في العمل، وافق محمد على هذا الأمر ، وذهب عائدا إلى منزله الساعة العاشرة صباحاً..



ورمى نفسه على الفراش ودخل في نوم عميق جداً ، مر الوقت وهو نائم حتى فاق على صوت صاعقة قوية ، قام من فراشه مفزوعاً ونظر إلى ساعته فإذا بها الساعة العاشرة ليلاً..



وفجأة انطفأت أنوار القرية كاملة بسبب عطل حصل بكبينة كهربائية عامة بعد ضربة الصاعقة..



ولم يتبقى إلا النور الخافت الصادر من عمود إضاءة الطريق المجاور.. هطل المطر سريعاً واشتدت الرياح مرة أخرى ، عاد هاجوس محمد مرة أخرى من ذلك الصوت ، جلس مترقباً له ، زادت وساوسه ، مرت ساعة وهو على هذه الحال ، وفجأة ظهر له خيال أسود وهو يمر من على النافذة المعهودة ، رآه كالحلم ، لم يصدق ما رآه ، أخذ محمد يمشي بخوف شديد وبخطوات مرتجفة نحو النافذة ليتأكد من هذا الشيء الذي بدى له أنه ضخم نوعاً ما ، إقترب محمد من النافذة بحذر شديد ، وإذا به يرى ذلك الشيء قريباً من شجرة قرب عمود الإضاءة الذي خفت نوره والتف الضباب من حوله ، نظر ناحيته وجلس يمعن في النظر وهو يرتجف مما يراه ، أمعن النظر لكي يتأكد ، سمع ذلك الصوت مرة أخرى وهو يصدر من ناحية ذلك الشيء ، وكلما زاد خوفه ارتفع صوت ذلك الغريب ، بدأ ذلك الشيء بالتحرك نحو منزل محمد ، لم يصدق ما يراه ، بدأت حالته النفسية بالتدهور ، شعر بالهستيرية تدب في دمه ، تكاد قدماه لا تحملانه من الخوف الشديد ، يقول لنفسه ، أتمنى أن يكون هذا حلماً ، يا ليت ما يحصل لي الآن أنه حلم ، أتمنى أن أفيق ، أريد أن أفيق من هذا الكابوس..




وفي تلك اللحظات التي يصارع محمد فيها ذلك الواقع ، تأكد أنه ليس في حلم ، وأن ما يراه ويسمعه حقيقة ، اقترب ذلك الشيء مرة أخرى وزاد صوته الذي كاد أن يشيب رأس محمد منه ، عرف محمد في تلك اللحظة أن هذا الشيء يريد مهاجمته ، احتار محمد وسط ما يحدث له من هذا الأمر الرهيب ... ماذا يفعل ، تبعثرت أفكاره المشتتة ، بدت قواه البدنية شبه منهارة ، وهو لا يزال ينظر لهذا الشيء ، لا يملك سلاحا ، ولا يملك شيئاً حتى .. لكي يدافع به عن نفسه ، سوى يأسه الذي كان مسيطراً عليه في السابق وزاد هذه المرة أضعافا مضاعفة ، لا يدري ماذا يفعل ، فهو يصارع أفكاره ، فمرة يقول سأحتمي في المنزل ، ومرة يقول ، سأخرج وأهرب بأقصى سرعة لكي لا يدخل عندي هذا الشيء البغيض ويقضي عليّ ، قرر محمد الخروج من المنزل ، خرج وسط الرياح والمطر، نظر من عند الباب إلى ناحية هذا المجهول فلم يعد يراه في مكانه ، انطلق محمد كالبرق ناحية الطريق ، أخذ يركض بشدة ، وأخذ يبتعد عن مكانه ، أخذ يبتعد ويبتعد بسرعة فائقة حتى ابتعد عن القرية ، وفي لحظة تعثرت قدماه في الوحل فسقط على الأرض ، دخل في شبه غيبوبة ، ثم حاول أن يستجمع قواه ، فعاد إليه شيء من التركيز وهو لا يزال ساقطا على الأرض ، لا زال المطر يهطل من فوقه ، وفي قليل من التركيز يسمع محمد ذلك الشيء الذي يقترب منه ، يسمع صوت خطواته على الوحل ، يسمع صوت أنفاسه الغليظة.



لم يلتفت محمد حتى هذه اللحظة من شدة خوفه ..



تذكر محمد في هذه اللحظة القوي الجبار ، تذكر في هذه اللحظة فاطر السموات والأرض..



تذكر في هذه اللحظة العليم الحفيظ .. السميع المجيب الذي لا إله إلا هو مالك الملك ورب العرش العظيم ، فتدفق الدم في شرايينه بعد أن كادت تجف ، وعاد قلبه يخفق بثبات وقوة ، بدأ محمد في التحول إلى شخص قوي ، بدأت أفكاره تجتمع ، قرر في تلك اللحظة أن يقف على قدميه في لحظة تحول هائلة ، عازماً على مواجهة ذلك الشيء متكلاً على الجبار المتكبر سبحانه ، وقف محمد على قدميه بثبات، وقرر أن يستدير ناحية ذلك الشيء ، فلما التفت ناحيته وجده قد ابتعد عنه خطوات بعيدة ، فقال محمد : من أنت وماذا تريد مني ؟؟!! فلم يجيبه ذلك الشيء ؟؟ فقال له هل أنت من الجن أم من الإنس ؟؟!! فلم يجيبه أيضاً بل استمر ذلك الشيء واقفاً كأن على رأسه الطير..!!



فقال له محمد ، سأواجهك بقوة الله .. فإني لا أخاف منك .. فقد زال يأسي وخوفي بإرادة الله .. فأخذ ذلك الشيء يتمتم ببعض الكلام الغير مفهوم بذلك الصوت القبيح ، وأخذ ينصرف مبتعدا عن محمد حتى اختفى في عتمة الضباب .. وما هي إلا لحظات حتى توقف المطر وانقشع الضباب وبدأت الشمس بالظهور.






لازال محمد واقفا على قدميه ، أخذه تفكيره إلى نتيجة واضحة باتت جلية بالنسبة إليه، فماذا تتوقعون أنه اكتشف ؟؟ لقد اكتشف حقيقة أنه كان السبب في ظهور ذلك الشيء ، واكتشف أنه كان يطارده منذ فترة طويلة ولكن كان الأمر أشبه إليه بوهم بسيط كان لا يلقي له بالاً ، وكان يقنع نفسه بأنه يتوهم ، وسرعان ما ينسى ذلك ، لقد اكتشف أنه كان هو من يرعى ذلك الإحساس الرهيب والشبح المخيف دون أن يشعر ، وجعله يستقوي عليه يوما بعد يوم ، حتى قام بمطاردته وهو في أشد وأقوى ما يكون عليه ، أتدرون ما هو يا أصحابي ، إنه بداية النهاية ، إنه ( اليأس ) يأس محمد القديم ، الذي عاش معه وترعرع حتى تمرد عليه فكاد أن يقتله ، ولكن الله أراد له أن يفيق لكي يتغير حاله فتغير ، وتغير بها عنوان قصته في النهاية إلى (نهاية بداية) بدلاً من (بداية نهاية) حينما انتهى يأسه وأشرقت آماله وطموحاته فأصبح الآن رجلاً ناجحاً في كل شؤون حياته.




قصة كتبتها بقلمي قبل وقت طويل ، وأحببت الآن المشاركة بها معكم ..
 
رد: بداية نهاية


قرأت القصه على عجل
لكن بالتاكيد لي عودة هنا
لاستمتع بقراتها مرة اخرى
وشكرآ​
 
رد: بداية نهاية

قرأت القصه على عجل
لكن بالتاكيد لي عودة هنا
لاستمتع بقراتها مرة اخرى​

وشكرآ​


مشرفتنا القديرة إحساسي ..

يشرفني حضورك ،، وننتظر عودتك على خير بإذن الله ..

تحياتي وتقديري ..
 
رد: بداية نهاية

أستمتعت بوجودي هنا

كل الشكر أخ رحال​
 
رد: بداية نهاية

اخي القدير رحال

استمتعت بقراءة القصة الجميله واضفت عليها جمالآ
بالصور الرائعه المعبره
لفصل الشتاء وروعته الخاصه
اليأس شبح مخيف مدمر يقتل صاحبه إذا لم يستطع
التخلص منه
والامل شمعة تنير الدروب
اتمنى لك السعادة وحياة مليئه بالآمل والتفاؤل
لك مني
تقييمي وتقديري؛؛
 
رد: بداية نهاية

(( اليأس شبح مخيف مدمر يقتل صاحبه إذا لم يستطع التخلص منه ))
(( والامل شمعة تنير الدروب ))

أنار الله دربك والجميع بالتفاؤل والأمل .. وحقق الأحلام إنه عزيز قدير ..

شكراً لكِ من الأعماق على كرم مرورك وتعليقك المشرّف ..
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى