آداب الاختلاف:

آداب الاختلاف:



الاختلاف سنة شرعية أكدها القرآن الكريم ونص على وجوبها بين الناس لاختلاف مراتب عقولهم وأفكارهم ومعتقداتهم و..

بينما نجد البعض يرفض شرعية الاختلاف فيجعل الناس يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة دون تجديد وتطوير وتطلع للإبداع والتغيير، من الغريب أن نجد من يدعي لنفسه فهم الإسلام وحقائقه وهو لا يعطي فرصة حق الاختلاف للرأي الآخر.

إن مصادرة الرأي الآخر لن يحقق إلا تمزيق الأمة وتفتت وحدة المجتمع وخلق الفتن والصراعات العبثية المنهي عنها شرعاً وعقلاً ومنطقاً وأخلاقاً.. في حين أن احترام الرأي الآخر وتشجيعه سيؤدي إلى التقدم والإبداع والابتكار.. كما أن ضمان حرية الرأي للجميع سيساهم في بناء وحدة الأمة وصلابة عودها.

فالحوار والاعتراف بحق الآخر يفسح مجالاً واسعاً للبحث في الدراسة المقارنة بحثاً موضوعياً يتوخى من ورائه حل مشاكل بعيدا عن التعصب المذموم.

وهذه جملة من الآداب العمل بها يهدي إلى الحق بإذن الله ويبعد المؤمنين عن الخلاف : 1-
إخلاص النية لله:

على من يجلس للحوار والمناظرة أن يجعل نيته هي إرضاء الله سبحانه وتعالى والوصول إلى الحق ، وكشف الغموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون ، ورأب الصدع بينهم ، وجمع الكلمة وإصلاح ذات البين .عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :قال رسول الله : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)([1]) ، ومن أخطر ما يمكن أن يتعرض له المتحاوران هو حب الظهور والانتصار على الخصم ، واثبات الذات ،قال الإمام الشافعي :"ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة ، وما ناظرت أحدا قط على الغلبة ".([2])

2- تمني الخير للمناظر المحاور في الطرف الآخر

إذا كانت نية الإنسان الوصول للحقيقة فعلية أن يتمنى الخير لخصمه من أجل الوصول إلى الحقيقة ، وعلى المسلم أن يعلم أن المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه كما ثبت ذلك في صحيح حديث رسول الله .

قال الإمام أبو حنيفة :" كنا نناظر وكأن على رؤوسنا الطير ، مخافة أن يزل صاحبنا ، وانتم تناظرون وتريدون زلة صاحبكم ، ومن أراد أن يزل صاحبه فقد أراد أن يكفر صاحبه ومن أراد أن يكفر صاحبه فقد طفر قبل أن يكفر صاحبه ."([3]) وقال الإمام الشافعي :" ما كلمت أحدا إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان " والمقصود بالكلام هنا المناظرة والحوار .([4]) لا شك أن هذه الكلمات تشكل دستورا رفيعا لأدب الحوار ومنهج المجادلة ، لو اتبعها المتناظرون وسار على نهجها المتحاورون لأثمرت الخير ، وقضت على الشحناء والبغضاء التي غالبا ما تسود جو المناظرات وتنتهي بها المحاورات .

وقال الشافعي([5]) :

إذا ما كنت ذا فضلٍ وعلمٍ بما اختلف الأوائلُ والأواخِرْ

فناظر من تُناظِر في سُكونٍ حَليماً لا تلِحُّ ولا تكابرِْ

يُفيدك ما استفادَ بلا امْتنانٍ من النُّـكَتِ اللَّطيفَةِ والنَّوادرْ

وإيَّاكَ اللَّجوجَ ومَنْ يُرائي بأنِّي قد غلَبْتُ ومن يفاخِرْ

فإنّ الشر في جَنَباتِ هذا يُمَنِّي بالتَّقاطع والتّدابرْ

3- احترام الرأي الآخر بالاستماع إليه حتى ينتهي .
من آداب الحوار والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد، وأن تحدد محل الخلاف قبل أن تخوض في الموضوع.و يجب على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته، فإن هذا أول درجات الإنصاف . فلا تقاطع وانتظر فرصتك في النقاش واسمع لمخالفك وانتظر أن ينتهي من كلامه .

ومن الأمثلة الرائعة في هذا المجال ما دار بين رسول الله وبين الوليد بن المغيرة عندما أرسلته قريش يحاور الرسول لكي يقنعه بأن يتوقف عن دعوته الجديدة التي جاء بها يدعو الناس إليها ، فجاءه وهو يصلي في المسجد فقال : أنك منا حيث قد علمت من خيارنا نسبا وحسبا ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، فقال رسول الله قل يا أبا الوليد أسمع .

فقال يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به مالا،جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن لا تستطيع رده طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه . فقال عليه السلام :" أفرغت يا أبا الوليد "؟قال : نعم ، إن كلام أبو الوليد وإن ظهر فيه الأدب إلا أنّه فيه استهزاء عميق برسول الله ، فكأنه يقول لرسول الله وبالعبارة الصحيحة : إما أنك وصولي أو انتهازي أو مجنون أو شهواني وبمعنى آخر نحن لا نصدق إطلاقا بأنك نبي مرسل من عند الله . وفي ذلك إقصاء حقيقي لمصداقية الرسول ، لو تعرض أي واحد منا لمثل هذا الموقف لقاطع المتحدث وارتفع صوته وانتفخت أوداجه، ولكن العظمة تظهر في خلق رسول الله ليس في سكوته على هذه الاتهامات ولكن فيقول له : "أو قد فرغت يا أبا الوليد" ؟ يعني هل عندك شيئا آخر تضيفه ؟ هل تريد فرصة أخرى في الحوار ؟ فيجيب أبو الوليد : نعم فرغت . فيقول له اسمع يا أبا الوليد ويقرأ عليه القرآن

فأمسك أبو الوليد بفيه وناشده الرحمه أن يكف . ورجع يقول لقومه والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني وخلو بين الجل وما هو فيه ، فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد . ([6])

فلماذا لا نقتدي برسول الله ؟ ونقبل على سيرته نقرؤها بقلوب متفتحة وعقول مستنيرة ، لنطبقها في كل تصرفاتنا وأعمالنا ففيها الخير والنور والحل لكل مشاكلنا .لقد استمع رسول الله إلى خصمه الذي تحدث معه من منطلق قوة واستخفاف إلى أن أنهى حديثه كاملا ولم يقاطعه ، وبعد أن انتهى قال له أفرغت يا أبا الوليد ؟ وعندما رد عليه لم يجبه بنفس الأسلوب من التهكم بل قرأ عليه القرآن الذي يبين حقيقة دعوته ووظيفته كبشر ينقل رسالة ربه.

4) ادخل إلى المناظرة وفي نيتك أن تتبع الحق وإن كان مع خصمك ومناظرك:

المسلم الذي قرر الإخلاص في حواره ومناقشته وابتغى في ذلك وجه الله عز وجل لا يمكن أن يرفض الحق ،فالحكمة ضالة المؤمن وهو أحق الناس بها ، فمن هنا يجب على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة ويناظره فيها ألا يدخل نقاشاً معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أني وجده ، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.

5 ) الانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف :
فإذا تم الالتزام بهذه الأسس فإنَّ الحوار ينطلق معتمداً على قواعد العقل والمنطق والعلم والحجة والبرهان ، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن إتباع أساليب السفهاء ، ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر
وأمر الله عز وجل بعدم سب وشتم آلهة الكفار حتى لا يردوا هم بسب الله عز وجل .


6) لا تتهم النيات:

مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظرك فإياك أن تتهم نيته ، افترض في المسلم الذي يؤمن بالقرآن والسنة ولا يخرج عن إجماع الأمة ، افترض فيه الإخلاص ، ومحبة الله ورسوله ، والرغبة في الوصول إلى الحق ، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه.

لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق إن كان الحق في جانبك وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية ، وقبح المقصد فإن نقاشك معه سيأخذ الى منحنى آخر وهو إرادة كشفه وإحراجه ، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده ، وقد يبادلك مثل هذا الشعور ، فينقلب النقاش عداوة ، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف وبيان ضلاله وانحرافه. و يجب على المسلم المناظر وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب أن يتهم رأيه ، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه ، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر، ويلوح له .

7) إذا تيقنت أن الحق مع مخالفك فاقبله وإذا قبل منك الحق فاشكره ولا تمن عليه:

يجب على المسلم إذا علم الحق من كلام مخالفه أن يبادر إلى قبوله فوراً لأن مخالفك في الدين يدعوك إلى حكم الله وحكم رسوله ، وليس إلى حكم نفسه . وأما إذا كان رأياً مجرداً ، ورأيت أن الحق معه ، وأن المصلحة الراجحة في اتباعه فاقبله أيضاً لأن المسلم رجّاع إلى الحق، ولا بد لانطلاق الحوار من التسليم الجدلي بأنَّ الخصم قد يكون على حق ،

وأما إذا وافقك مخالفك ، ورجع عن قوله إلى قولك فاشكر له إنصافه ، وقبوله للحق ، واحمد الله أن وفقك إلى إقالة عثرة لأخيك ، وبيان حق كان غائباً عنه.

8) أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور:

إذا تيقنت أن النقاش والحوار سيؤدي الاستمرار فيه إلى الشقاق ، والنفور فاطلب رفع الجلسة ، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ،قال : قال رسول الله : (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خُلقه .)([7])

أن ترك الحوار والمناقشة والجدال ، من أجل الحفاظ على الأخوة ومنع الشقاق والخلاف ، خير من الاستمرار فيه حتى وإن كانت النتيجة هي الانتصار على الخصم ، وعلى المتحاورين أن يضعوا نصب أعينهم أن الخلاف في الرأي يجب أن لا يفسد للود قضية ، بل إن الحفاظ على الأخوة والوحدة الإسلامية فريضة يجب الدفاع عنها ،
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى