احفظ الله يحفظك

الصبر

عضو جديد
ملخص البحث

هذا البحث هو شرح لحديث رسول الله e في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما حينما قال له وهو رديفه: ( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )، وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ) .
وهذا الحديث، وإن سبق شرحه قديماً وحديثاً، إلا أني لم أقف على من درسه دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل كثيرة تتعلق بأساس الدين وأصله، إذ فيه من المسائل المتعلقة بألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته ونحو ذلك مما يؤكد الحاجة الضرورية لدراسته .
ولهذا كتبت فيه هذا البحث الذي بدأته بمقدمة ذكرت فيها أهميته وسبب اختياره، ثم كتبت تمهيداً ضمنته ذكر الحديث برواياته، ثم شرحه إجمالاً، مع بيان مكانته وما قاله العلماء فيه، ثم قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، جعلت كل فقرة من فقراته في مبحث خاص، ثم ختمته بخاتمة ذكرت فيها أهم نتائجه، ثم وضعت فهرساً لأهم المصادر والمراجع التي أفدت منها .
وإني لأنبه إلى أن هذا الحديث لا يزال بحاجة إلى عناية خاصة بالتأليف لما اشتمل عليه من مسائل عظيمة .
أسأل الله إخلاص النية، وصلاح العمل وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله صحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد.
فإن رسول الله e أعطي (فواتح الكلام وجوامعه وخواتمه) ([1]) ، ويتضح ذلك لكل من تتبع سنته واقتفى أثره، وكان e حريصاً كل الحرص على نجاة أمته، بتعليمها وتربيتها التربية النبوية العقدية القويمة، يفعل ذلك في كل أوقاته، حتى أثناء تنقــله من مكان إلى آخر، كما في أحاديث، منها وصيته e لابن عباس رضـي الله عنهما عندما كان رديفه على الدابة، وهو موضوع هذا البحث، وهــذا الحديـــــث العظيــــــم وإن كان موجـهاً من رسـول الله e إلى ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه وصية عظيمة القدر للأمة جمعاء، وإرشاد نبوي لكل من أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
هذا وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث، قديماً وحديثاً، شرحاً وتفصيلاً، فتتبعت ما كتب فيه فرأيت أنه بحاجة إلى دراسة عقدية تظهر ما فيه من مسائل عظيمة تتعلق بأشرف العلوم وأجلها قدراً، وأوجبها مطلباً، وهو علم التوحيد، لأنه مفتاح الطريق إلى الله e وأســاس الشرائـع قال تعالى : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [ ([2]).
فإن كثيراً مما كتب في شرح هذا الحديث اعتنى ببسط مسائله الوعظية، وفي هذا خير عظيم، والأمة بحاجة ماسة إلى من يذكرها ويعظها بما جاء في كتاب الله تعالى وثبت في سنة رسوله e، إلا أن التركيز على مسائله العقدية من أهم المهمات.
وهذا لا يعني أن من كتب في شرحه أغفل مسائل العقيدة لكنه أجمل في ذكرها مقارنة مع ما في الحديث من مسائل كبيرة.
ومن أفضـل ما قرأته المملكة العربية الســـعودية ما كتبــه أســــلافـــنا شــرح ابن دقيـق العيـد (ت 702هـ) في كتابه (شرح الأربعين حديثاً النووية)، وشرح ابن رجب (ت 795 هـ) في كتابــه (جامع العلوم والحكم) و (نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي e لابن عباس) وغيرهما، وبخاصة ممن كتب في شرح الأربعين النووية.
إلا أنه كما ذكرت آنفاً رأيت أن الحديث بحاجة إلى دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل أُجمل في ذكرها، وبخاصة أنه قد تناوله بالشرح ممن هو ليس على عقيدة السلف، فظهرت آثار ذلك في شرحه.
وقد بدأت البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية وسبب الكتابة في هذا الموضوع، ثم تمهيداً ذكرت فيه الحديث ومكانته وشرحه إجمالاً.
بعد ذلك قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، كل فقرة في الحديث جعلتها في مبحث مستقل.
ثم ختمت هذه الدراسة بخاتمة كتبت فيها أهم ما توصلت إليه إجمالاً.
أسأل الله إخلاص النية وصلاح العمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد :
متن الحديث:
عن أبي العباس عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – قال: كنت خلفَ النبي e يوماً فقال : (يا غلامُ إني أُعَلِّمُك كلمات: احفظِ الله يحفظك، احفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) ([3]).
وفي رواية: ( احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك،واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ).
وفي رواية: ( يا فتى ألا أهب لك ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنه قد جف القلـــــم بما هو كائن، واعلــــــم بأن الخلائـــق لو أرادوك بشيء لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) ([4])
 
رد: احفظ الله يحفظك

مكانة الحديث:
حديث ابن عباس هذا حديث عظيم – وكل أحاديث الرسول e عظيمة وشريفة - فهو أمر نبوي كريم بحفظ الدين، وبيان لنتيجة ذلك، وهو نصر الله وتأييده وحفظه لمن حفظ دينه، وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولاً عظيمة ، من الإيمان بالله والإخلاص له بالعبادة والتوكل عليه والاسـتعانة به ، والقضاء والقـدر ، والاتبـاع لما جاء به رسوله e.
ومما يدل على مكانته اختيار النووي (ت 676هـ) له أن يكون ضمن الأربعين حديثاً التي جمعها، وكان رقمه التاسع عشر، وذكر سبب اختياره لها بقوله : (( وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً …، ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها، وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك… ، وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره )) ([5]).
كما اختاره النووي أيضاً ليكون ضمن كتابه القيم (رياض الصالحين)، ووضعه في الباب الخامس، باب المراقبة، من الكتاب الأول، فكان رقمه الثاني والستين من جملة الأحاديث التي بلغت 1896 حديـــثاً، وقد قال في مقدمتها: (( فرأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة، مشتملاً على ما يكون طريقاً لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلاً لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعاً للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح، وإزالة اعوجاجها،وغير ذلك من مقاصد العارفين )) ([6]).
وقد وجد هذان الكتابان قبولاً عظيماً عند العلماء، وطلبة العلم بعد النووي، إذ كثر انتشارهما، واعتني بهما بالشرح والتعليق.
وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث خاصة، وشرحوه، وبينوا منزلته، ومن ذلك ما ذكره ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) حيث قال: (( هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة،وقواعد كلية من أهــم أمــــور الدين، وأجلِّها، حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه (صيد الخاطر): تدبرت هذا الحديث، فأدهشني، وكدت أطيش، فوا أسفي من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه )) ([7]).
وقــال ابن حجــر الهيتمي (ت 974هـ) بأن هذا الحديث اشــتمل على (( هذه الوصايا الخطيرة القـــدر، الجامعــــة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر )) ([8]).
وقال ابن عثيمين: (( فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائماً، وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة، التي أوصى بها النبي e ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما )) ([9]).
شرح الحديث إجمالاً:
قوله: (كنت خلف النبي e) أي راكباً معه، ورديفه.
قوله: (فقال: يا غلام…) قال له: (يا غلام)؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن الرسول e توفي وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة ([10]).
قوله: (إني أعلمك كلمات) ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات، ليكون ذلك أوقـــع في نفســـه، وجاء بها بصيغة القلّة؛ ليؤذنه أنها قليلة اللفظ؛ فيسهل حفظها([11]).
قوله e : (احفظ الله) أي احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره ونواهيه.
وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله.
وأعظم ما يجب حفظه التوحيد، وسلامة العقيدة، فهي الأصل والأساس لبقية أركان الإيمان والإسلام، التي يجب حفظها، بالإيمان بها قولاً وعملاً واعتقاداً، إخلاصاً لله تعالى، واتباعاً لما جاء به رسول الله e.
قال ابن دقيق العيد ( ت 702هـ) في معنى (احفظ الله): (( ومعناه كن مطيعاً لربك، مؤتمراً بأوامره، منتهياً عن نواهيه )) ([12]).
وكذلك من حفظ الله أن يتعلم المسلم من دينه ما يقوّم به عباداته ومعاملاته، ويدعو به إلى الله e.
وقوله: (يحفظك) يعني أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من أنواع العقوبات، جزاء وفاقاً.
فكلما حفظ الإنسان دين الله حفظه الله.
وحفظ الله لعبده الحافظ لدينه، يكون في أمرين:
الأول: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفّاه على الإيمان.
هذا هو الأمر الأول، وهو أعظمهما وأشرفهما، وهو أن يحفظ الله عبده من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله هدى، وكلما ضل ازداد ضلالاً.
الثاني: حفظ الله للعبد في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله([13]).
إذن من حفظ حدود الله حفظه الله في دينه، وفي بدنه وولده وأهله وماله.
قوله e: (احفظ الله تجده تجاهك) أي احفظ الله أيضاً، بحفظ حدوده وحقوقه، وشريعته بالقيام بأمره واجتناب نهيه.
(تجده تجاهك)، وفي رواية: (أمامك)، ومعناهما واحد، أي من حفظ حدود الله وجد الله تجاهـــــه وأمامــــه، في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده، كما قال تعالى: ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [ ([14]).
نعم من حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، ولا سيما إذا حفظ الله بالاستعانة به؛ فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، فلن يناله سوء. ([15])
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذه العبارة: (( أي اعمل له بالطاعة، ولا يراك في مخالفته؛ فإنك تجده تجاهك في الشدائد )) ( [16]).
قوله e: (إذا سألت فاسأل الله) سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه، فدل هذا التوجيه النبوي الكريم على أن يسأل الله e، ولا يسأل غيره، فسؤال الله e دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وجلب المنافع، ودفع المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
والله سبحانه يحب أن يُسأل، ويُلَحّ في سؤاله، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يُسأل، ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجت([17]).
قوله e : (وإذا استعنت فاستعن بالله) دل هذا الحديث على أن يستعان بالله دون غيره، وأن لا يعتمد على مخلوق، فالاستعانة هي طلب العون، ولا يطلب العون من أي إنسان (( إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً تعتمد عليه … )) ([18]).
 
رد: احفظ الله يحفظك

يقول ابن رجب : (( وأما الاستعانة بالله e دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا لله e، فمن أعانه الله فهو المعان…، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات )) ([19]).
قوله e: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). المراد أن كـــل ما يصيب الإنســــان في دنياه، مما يضره أو ينفعه، فهو مقدر عليه، فلا يصيب الإنسان إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً.
فالرسول e يخبر في هذا الحديث أن الأمة لو اجتمعت كلها على نفع أحد لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإذا وقع منهم نفع له فهو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه، وكذلك لو اجتمعوا على أن يضروا أحداً بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه([20]).
ولهذا جاء في الحديث: (إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمـان حتى يعلـم أن ما أصابه لم يكن ليخطئـه، وما أخطـأه لم يكن ليصيبه) ([21]).
قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) هذا إخبار من الرسول e عن تقدّم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفّت من المداد، ولم يبق مراجعة، فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك([22]).
قوله e: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه، إذا صبر عليها نصره الله، وجعل في صبره خيراً كثيراً.
يقول صاحب شرح رياض الصالحين في شرح هذا الحديث: (( يعني اعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبرت، وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النصر ؛ فإن الله تعالى ينصرك .
والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة )) ([23]).
قوله : (وأن الفرج مع الكرب) أي كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج من الله قريب ، يقول ابن حجر الهيتمي : ( … (وأن الفرج) يحصل سريعاً (مع الكرب) فلا دوام للكرب ، وحينئذ فيحسن لمن نزل به أن يكون صابراً، محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فالله e أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه، فهو e أرحم الراحمين )) ([24]).
وقوله: (وأن مع العسر يسراً) أي أن كل عسر فإن بعده يسراً، بل إن العسر محفوف بيُسرَيْن، يُسر سابق، ويُسر لاحق، لقوله تعالى: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْـــرًا [ ([25]). فالعسر لا يدوم لمن احتسب وصبر، وعلم أن ما أصابه بمقدور الله تعالى، وأنه لا مفر له من ذلك، واستقام كما أمر ربه؛ إخلاصاً وحسن اتباع([26]).
المبحث الأول
في قوله e : ( يا غلام : إني أعلمك كلمات)
مما يؤخذ من هذا الجزء في حديث الرسول e الأمور التالية:
1- وجوب تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتربيتهم عليها، وعل العلم النافع، ويكون ذلك بأسلوب مختصر، وكلم جامع واضح، فلو تأملت هذا الحديث لوجدته جامعاً لمسائل عقدية كثيرة بأسلوب موجز.
2- الحرص على تربية الناشئة على العلم النافع، ويبدأ بتربيتهم على العقيدة الصافية الخالصة؛ فإن الرسول e وجه هذه الكلمات النافعات إلى ابن عباس وهو صغير؛ إذ قال له : (يا غلام: إني أعلمك كلمات)؛ ليتربى الشاب المسلم على معرفة الله وتوحيده، وحفظ حدوده، يلجأ إلى الله في الرخاء والشدة، ويسأله ويســتعين به، ويتوكل عليه e، فيصبح شجاعاً مقداماً؛ لأنه يعلم أنه لا يملك أحد من البشر له نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله تعالى، ولأن الله معه ينصره ويؤيده وييسر له أموره، ما دام متمسكاً بشرع الله إخلاصاً واتباعاً.
فعلى الجميع الحرص على غرس الإيمان في نفوس الأبناء، وتربيتهم على فهم أصول الإيمان، والعمل بأحكام الإسلام، وتعويدهم على المراقبة والمحاسبة منذ الصغر، قبل أن تصلهم الفلسفات الإلحادية والشبهات البدعية والشهوات المغرضة، وغير ذلك مما تشنه تلك الحملات المسعورة من حرب ضروس ضد شباب الأمة ذكوراً وإناثاً، مرة باسم التثقيف، وباسم التسلية والترفيه مرات أخرى.
3- استحباب تشويق المتعلم، وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية ما يلقى إليه، وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه ليسهل عليه تلقيه واستيعابه، وبالتالي حفظه ووعيه، وبخاصة المسائل العقدية التي يحتاج إلى دقة في حفظها ونقلها، ويؤخذ هذا من فعل الرسول e عندما قال لابن عباس مقدماً له هذه المسائل: (يا غلام: إني أعلمك كلمات).
4- ومما يؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول e على توجيه الأمة، وتنشئة الجيل المسلم على العقيدة الصحيحة والشرع القويم، وقد قال الله تعالى في وصفه e: ] لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ ([27])، أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها، حريص على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم([28])، ولهذا ورد عن أبي ذر e أنه قال: تركنا رسول الله e وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً، قال: فقال رسول الله e: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم) ([29]).
المبحث الثاني
في قوله e: (احفظ الله)
ومما يؤخذ في هذا الجزء ما يلي:
1- إثبات صفة الحفظ لله تعالى، أخذاً من قوله e: (احفظ الله يحفظك)، فهنا أثبت أن الله e متصف بأنه يحفظ عباده الذين يحفظون حدوده، فدل على إثبات صفة الحفظ لله تعالى، وأنها تتعلـــق بإرادته ومشيئــــته، وهذه الصفة ثابتة لله U في القرآن الكريم ، لقـوله تعالى : ] فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين[ )[30](، وقوله ســبحانه: ] إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ [ ([31]).
وقد ذكر العلماء أن من أسماء الله تعالى (الحافظ) و(الحفيظ)؛ أخذاً من الآيتين السابقتين، ومن المعلوم أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة، وأسماء الله تعالى إن دلت على وصف فقد تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله U.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله U.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها([32]).
مثال ذلك (الحافظ) يتضمن إثبات (الحافظ) اسماً لله تعالى، وإثبات الحفظ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه سبحانه يحفظ عباده، الذين يحفظونه.
ومن الأدلة أيضاً على تسمية الله بالحفيظ قوله تعالى: ] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [ ([33])، وقوله: ] وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ [ ([34]).
يقول صالح البليهي (ت 1410هـ): (( الحفيظ من أسماء الله الحسنى، واشتقاقه من الحفظ، والحفظ لغة هو الحراسة والصيانة والحياطة، والله جل وعلا سمى نفسه حفيظاً … فالله تقدّس اسمه هو الحافظ والحفيظ، هو تعالى على كل شيء حفيظ، أي شاهد وحافظ، يحفظ على عباده أقوالهم وأفعالهم، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر …، والله تعالى من فضله ولطفه ورحمته وإحسانه يحفظ عباده المؤمنين، وهو خير الحافظين، يحفظهم من كل شر، ومن كل محنة وبلاء، يحفظهم تعالى ] وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ[ يحفظهم بشرط أن يحافظوا على ما أوجب الله عليهم في شريعة الإسلام، وبشرط أن يحفظوا جوارحهم عن كل ما حرم الله…، ودعاء الله بأسمائه مشروع، وكيفيته يا غفور اغفر لي، يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا معافي عافني، ونحو ذلك، فالله تعالى هو الحافظ والحفيظ … اللهم يا حافظ ويا حفيظ احفظنا وأنت خير الحافظين )) ([35]).
2 - وجوب حفظ العقيدة، والحرص على سلامتها مما قد يشوبها، وأن ذلك أعظم أسباب حفظ الله للعبد، كما يجب حفظ الشريعة، وذلك بالعمل بها، والدعوة إليها، والدفاع عنها.

فإذا كان قوله e: (احفظ الله) يعني حفظ حدوده، وحقوقه ، وأوامره ونواهيه، فإن أعظم حقوقه توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، واتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله e، المصدرين لتلقي العقيدة، والحذر من الانزلاق مع الهوى، أو تقديم العقل على النص الشرعي مما أوقع كثيراً من الفرق والنحل في الشرك والبدع والمخالفات.
وحفظ العقيدة يكون بتعلمها والإيمان بها والعمل بمقتضاها،وتعليمها والدعوة إليها.
فقوله: (احفظ الله) أمر بحفظ توحيده، وأوامره ونواهيه، وحقوقه وحدوده، كما أنه أمر بحفظ الجوارح كالسمع والبصر واللسان والبطن والفرج.
ولهذا يقـــــول الله تعـــالى : ] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيـــــظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ( ([36]) يقال للمتقين على وجـــه التهنئة: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حفيظ ) أي هذه الجنة وما فيها ، هي التي وعد الله لكل أواب ، أي رجاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بتوحيده وذكره ، وحبه ، والاستعانة به ، (حفيظ) أي محافظ على ما أمر الله به، من توحيده وشرعه ، على وجه الإخلاص، والإكمال له على أتم الوجوه، حفيظ لحدوده ([37]).
وخصت بعض الأعمـــال بالتنصــــيص على حفظها اعتـــناء بشـــــــأنها، ومن ذلك قوله تعالى: ] حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [ ([38]). وقوله تعالى: ] قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [ ([39])، وقوله: ]وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ ([40])، وقوله: ] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون [ ([41])، وقوله: ] وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [ ([42])، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله e: (من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة) ([43])، وفي رواية: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة ) ([44])، وقوله e: ( ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) ([45]).
 
رد: احفظ الله يحفظك

إذن من فعل الواجبات وترك المحرمات فقد حفظ حدود الله تعالى، ومن ثم فقد حفظ الله، وأعظم ما أوجبه الله على عباده، توحيده، وعبادته سبحانه إخلاصاً له ، ومتابعة لما جاء به رسوله e، فهي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، قال تعالى: ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون[ ([46]).
فمن آمن بذلك وعمل به فهو من الحافظين لحدود الله تعالى، الذين أثنى الله عليهم ســـبحانه بقولــه : ] وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ ([47])، وقولـــه سبحانـــه : ]هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ[ ([48]).
ومن الأدلة على حفظ الجوارح ما جاء في حديث ابن مسعود المرفوع: (الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى ) ([49]).
وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ اللسان من الكذب والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والقول الحرام، وحفظ السمع عن الأصوات المحرمة، وحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله تعالى النظر إليه، ونحو ذلك.
وحفظ البطن وما حوى: يدخل فيه حفظ القلب عن الاعتقاد الباطل، والإصرار على المحرم، وحفظ البطن من إدخال ما حرم الله من المأكولات والمشروبات الممنوعة شرعاً([50](.
قال تعالى: ] وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً[ ([51])؛ أي ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يُعدّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله تعالى، وإخلاص الدين له، وكفها عما يكرهه الله جل وعلا([52]).
(( وكما هو معروف الجزاء من جنس العمل فمن حفظ الله حفظه الله، وحفظ الله لا يحصل إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات، فمن فعل جميع ما أوجب الله عليه، وترك جميع ما حرم الله عليه حفظه الله بما يحفظ به عباده الصالحين، ومن المعروف أن هذه الحياة في غالب الأزمان تموج بالشرور والفتن، والحروب الطاحنة، ولكن من حفظ الله حفظه الله ))([53]) .
ومما يلزم التنبيه عليه أن (( الله عزوجل ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظه، ولكن المراد حفظ دينه وشرعه، كما قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [ ([54])، وليس المعنى تنصرون ذات الله؛ لأن الله I غني عن كل أحد، ولهذا قال في آية أخـــرى: ]ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُم [ ([55])، ولا يعجـــــــزونـــــه ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجــــِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي الســـــَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض [ ([56]) )) ([57]).
وهذا الفهم الخاطئ قد يفهمه الجهلة أو يثيره الأعداء، فإن اليهود عندما سمعوا قول الله تعالى: ] مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة[ ([58])، قالوا : يا محمد : افتقر ربك فسأل عباده القرض، ما بنا إلى الله من حاجة، وإنه إلينا لفقير، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا – كما نُقل ذلك عنهم([59]) – فأنزل الله U قوله: ] لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [ ([60]).
المبحث الثالث
في قوله e (يحفظك)
إذا حفظ العبد توحيده، وراعى حقوق ربه، فعندئذ يحفظه الله؛ في دينه، وفي بدنه وماله وأهله.
وأعظم هذه الأمور حفظ الله تعالى دين العبد، بأن يسلّمه من الزيغ والضلال، والانحراف، لأن الإنسان كلما حرص على حفظ توحيده، وسلامة عقيدته من البدع والخرافات والضلالات، حفظ الله عليه عقيدته وتوحيده، وكلما التزم الهداية زاده الله هدى، قال تعالى: ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم[ ([61])، وكلما ضل الإنسان، والعياذ بالله، فإنه يزداد ضلالاً، ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين: ] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ [ ([62])، أي: ختم على قلوبهم، وسد أبواب الخير التي تصل إليه بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل([63]).
ولهذا جاء في الحديث: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبــه، وهو الران الــــذي ذكــــر الله: ] كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ ) ([64]).
يحفظ الله U عبده الحافظ لدينه في حياته، وعند موته، فيتوفاه على الإيمان، إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه قوله تعالى: ] وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ ([65])، وقوله تعالى: ] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [ ([66])، وقوله: ] إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [ ([67])، وقوله e: (إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصَنِفة إزاره ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ([68]).
فمن حفظ الله في حياته، بإخلاص العبادة له سبحانه، وحسن الاتباع لرسوله e حفظه الله بالإسلام ونصره وأيده؛ وقد علّم رسول الله e عمر بن الخطاب t أن يقول: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً ولا حاسداً، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) ([69]).
وقال e: (من أراد أن يسافر فليـــــقل لمن يخلــــِّف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)([70]).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول للرجل إذا أراد سفراً: ادنُ منِّي أودعك كما كان رسول الله e يودّعنا، فيقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) ([71]).
وجاء في الحديث عن رسول الله e أنه قال: ( إن الله إذا اسْتُودع شيئاً حفظه) ([72]).
فالله U يحفظ العبد الحافظ لدينه، المخلص في عبادته، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه من مفسدات الشبهات والشهوات، من البدع والخرافات، وأنواع المغريات، فيحفظه الله منها بأنواع الحفظ، قد يخفى بعضها عليه؛ إذ يكون في ظاهرها بلاء، وفي حقيقتها صرف السوء عنه، كما قال تعالى في قصة يوسف u : ] كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين [ ([73]).
يقول الســعدي (ت 1376هـ) في حديثــه عن قصــة يوسف u : ((فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هماً تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، (قال معاذ الله) أي أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح؛ لأنه مما يسخط الله، ويبعد عنه …، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة سيده، الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم، الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما من الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله: أن الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله، واختارهم واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه )) ([74]).
وقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُــواْ أَنَّ اللّهَ يَحُــولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِــهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْــشَرُونَ [ ([75]).
روي عن ابن عباس أنه قال: (( يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان )) ([76]).
فمن حافظ على سلامة توحيده من الشبهات والانحرافات، وقام بحقوق الله عليه؛ فإن الله يحفظه بحفظ جميع مصالحه في الدنيا والآخرة، فمن أراد أن يتولى الله حفظه في أموره كلها فليراعِ حقوق الله عليه، وأعظمها حق توحيده، وإفراده بالعبادة، والعمل بشريعته ، اتباعاً لرسوله e، وقد أخبر الله تعالى بأنه ولي المؤمنين وكافيهم وحسبهم، قال تعالى: ] اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُر [ ([77])، وقال تعالى: ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ [ ([78])، وقال سبحانه: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه [ ([79])، وقال: ]أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [ ([80]).
فالحافظ لدينه يحفظه الله في دينه ودنياه، ويحييه حياة طيبة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ[ ([81]) روى الطــبري (ت 310هـ) عن ابن عباس قوله بأن المعقبات (( هم ملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه )) ([82]).
وروى الطبري أيضاً، عن مجاهد ( ت 104هـ) قوله: (( ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيئاً يأذن الله فيه فيصيبه )) ([83]) .
وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: لم يكن النبي e يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شــمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ([84](.
ويقول الله U: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ ([85])، فهذه الآية (( وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله e، من ذكر أو أنثى، من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، أن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه الله بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت )) ([86])، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال([87]).
فلو أن الأمة رعاة ورعية حفظوا شرع الله تعالى، واحتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله e وحكموهما في جميع مجالات الحياة، لسلمت الأمة من كثير من الأخطار والفتن والابتلاءات كالجوع والخوف والغزو ونحو لك؛ إذ إن ما أصابها من تشتت وفرقة هو بسبب تهاونها في حفظ حدود الله تعالى والقيام بشرعه.
وإن انتصار الأمة مرهون بنصرها دين الله تعالى، بالعمل به والدعوة إليه، والدفاع عنه، يقول تعالى: ] وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ([88]) ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى (( أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصرة رسله واتباعهم، ونصرة دينه، وجهاد أعدائه، وقهرهم، حتى تكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى، ثم إن الله جل وعلا بيّن صفات الذين وعدهم بنصره؛ ليميزهم عن غيرهم، فقال مبيناً من أقســم أنه ينصره ؛ لأنه ينصر الله جل وعلا: ] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَر [ ([89]) الآية، وفي قوله: ] الَّذِينَ إِن مَّكَّنـَّـاهُمْ فِي الأَرْضِ [ دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر إلا مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض، ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فليس لهم وعد من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه، الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له )) ([90]).
وخلاف ذلك، من كفر بأنعم الله تعالى وضيّع حدوده، فقد عرّض نفسه للهلاك، يقول تعالى: ] وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَـاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْــهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَـذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ ([91]). قال الشنقيطي (ت 1393هـ) بعد تفسيره هذه الآية: (( وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان؛ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكـــورة، ولكن الأمـثال لا يعقـــلهــا عن الله إلا من أعطـــاه الله علماً؛ لقوله U : ]وَتِلْكَ الأَمْثَـــالُ نَضـــْرِبُهَا لِلنَّــاسِ وَمَــا يَعْقــِـــلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون[ ([92]) )) ([93]).
(( ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه لله في حال كبره، وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله )) ([94]).
ذكر ابن كثير (ت 774هـ) أن أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري الشافعي (ت 450هـ)، قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: (( هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر )) ([95]).
وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخاً يسأل الناس، فقال بأن هذا الشيخ لم يحفظ الله في صغره، فلم يحفظه الله في كبره( [96])
وقد يحفظ الله العبد بـصــــلاحــه بعد موتــه، في ذريته، بدليل قوله تعالى : ]وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّك[ ([97]).
قال ابن كثير: (( وقوله: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا، والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم))([98]).
وروي عن ابن عباس أنه قال: (( حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً )) ([99]).
وقال السعدي في تفسير الآية السابقة: (( أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهـــما؛ لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضاً بصلاح والدهما )) ([100]).
وذكر ابن رجب أن سعيد بن المسيب قال لابنه : (( لأزيدن في صلاتي من أجلك ؛ رجاء أن أُحفظ فيك ))([101]) ثم تلا هذه الآية ) وكان أبوهما صالحاً (.
ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : (( ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه )) ([102]).
وقال أبو نعيم (ت430هـ) بأن ابن المنكدر (ت130هـ) قال : (( إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر )) ([103]).
وجاء في الحديث أن النبي e قال: (كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزاً، وصيصيتها([104]) كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزاً لها وصيصيتها، فقالت: يا رب ، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه ، وإني قد فقدت عنزاً من غنمي وصيصيتي ، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي) قال: وجعل رسول الله e يذكر شدّة مناشدتها ربها تبارك وتعالى ، ثم قال رسول الله e: (فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها) ([105]).
ومن حفظ الله تعالى لعبده الحافظ لحدود الله أن يجعل الحيوانات المؤذية، حافظة له من الأذى، كما حدث لسفينة مولى النبي e، حيث كسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى أسداً، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع عنه([106]).
ومن ضيع حدود الله واتبع الشبهات أو غرق في الشهوات، ولم يحفظ الله، لم يحفظه الله، وكان عرضة لعقاب الله وسخطه، ودخل عليه الضرر والأذى، وربما أصابه ذلك ممن كان يرجو نفعه من أهله وماله، كما نقل عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) أنه قال: (( إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي )) ([107]).
المبحث الرابع
في قوله e : (احفظ الله تجده تجاهك)
وفي الرواية الأخرى: (احفظ الله تجده أمامك)
من حفظ الله بحفظ توحيده وشريعته، وقام بأوامر الله تعالى، واجتنب نواهيه وجد الله تجاهه وأمامه، ومعناهما واحد، أي وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، وبخاصة إذا حفظ الله بالاستعانة به والتوكل عليه، فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، قال الله تعـالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ ([108])، (( أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض المغالطين؛ إذ هو وحده كاف نبيه، وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول )) ([109]).
وقال تعالى: ] وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ [ ([110])؛ فإذا كان الله حسب الإنسان، أي كافيه؛ فلن ينالوه بسوء، ولا يزال عليه من الله حافظ، ولهذا قال e : (احفظ الله تجده تجاهك).
قال ابن حجر الهيتمي: (( أي تجده معك بالحفظ، والإحاطة والتأييد والإعانة، حيثما كنت، فتأنس به، وتستغني به عن خلقه …، على حد قوله تعالى: ] أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[ ([111])، ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ([112])…، المعنى تجده حيثما توجهت وتيممت وقصدت من أمر الدين والدنيا )) ([113]).
ومعية الله لخلقه نوعان:
الأولـى: المعية الخاصة بالمؤمنين، الحافظين حدود الله، وهي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، وتوجب لمن آمن بها كمال الثبات والقوة. ودليل هذه المعية الخاصـــــة قولــــه تعالى : ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [([114])، وقولـــــه تعالـى: ] إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [ ([115])، وقوله تعالى عن موسى أنه قال: ]إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[([116])، وقول النبي e لأبي بكر وهما في الغـــار : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ]لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[ ([117])، وقوله تعالى: ]وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ ([118]).
فمن حفظ الله حفظه الله وأيده ونصره.
الثانية: المعية العامة لجميع الخلق، وهي تقتضي الإحاطة بجميع الخلق من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، في العلم، والقدرة، والتدبير، والسلطان،وغير ذلك من معاني الربوبية.
وهي توجب لمن آمن بها كمال المراقبة لله U.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: ] وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ [ )[119])، وقوله تعالى : ]مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [ ([120])، وقوله : ] وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْل [ ([121]).
والكتاب والسنة يدلان على قرب الله تعلى من عبده الحافظ لدينه، يقول الله U: ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَــادِي عَنِّي فَإِنــــــِّي قَرِيـبٌ أُجِيـــــبُ دَعْـــــوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ ([122]).
وقول الله تعالى في الحديث القدسي: ( وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) ([123]).
والمراد أن الله U يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره، وعمله بيده، كله لله تعالى، إخلاصاً، وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعاً واتباعاً، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق)([124]).
وقوله e فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: ( من تقرّب مني شبراً تقربت منه ذراعــــاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) )[125]).
فالله I يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه جل وعلا، ويأتي عبده كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (( وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة الســلف، وأئمة الإســــلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر )) )[126]).
وروى ابن رجب عن قتادة (ت 118 هـ) أنه قال: (( من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل )).
وذكر أن بعض السلف كتب إلى أخ له يقول: (( أما بعد، فإن كان الله معك فممن تخاف ؟! وإن كان عليك فمن ترجو؟! والسلام )) ([127]).
ولا شك أن الذي يحفظ عقيدته من الانحراف، وعمله من الشرك، ويتقي الله يكون الله معه، بنصره وتأييده، يهديه ويحفظه، ويؤمنه، ومن اتبع الشبهات، أو ضيع حدود الله فقد عرّض نفسه للهلاك.
فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها، فليراعِ حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره، فلا يأتِ شيئاً مما يكرهه الله منه، وعلى قدر اهتمام العبد بحقوق الله ومراعاة حدوده وحفظه لها، يكون حفظ الله له ونصره وتأييده، ومن كان غاية همه توحيد الله ومعرفته وطلب قربه ورضاه؛ فإن الله يكون له حسب ذلك، بل هو سبحانه أكرم الأكرمين، فهو يجازي بالحسنة عشراً ويزيد، ومن تقرّب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
 
رد: احفظ الله يحفظك

المبحث الخامس
في قوله e: (وإذا سألت فاسأل الله )
قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أي لا تعتمد على أحد من المخلوقين، وإذا احتجت فاسأل الله وحده، يأتيك رزقك من حيث لا تحتسب، أما إذا سأل الإنسان المحتاج الناس فربما أعطوه أو منعوه، ولهذا جاء في الحديث: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتـــطب ثم يبيـــــعه لكان خيراً له من أن يســــأل الناس أعطـــوه أو منعوه ) ([128]).
فعلى المسلم أن يتجه بسؤاله لله وحده، ويدعوه بإلحاح، مثل أن يقول: (اللهم ارزقني)، و(اللهم أغنني بفضلك عمَّن سواك) وما أشبه ذلك من الكلمات([129]). وفي قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أمر بإفراد الله I بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره.
وقال الله I: ] وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ[ ([130])، وقال جل وعلا: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين [ ([131]).
(( وهذا من لطفه بعباده، ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعّد من استكبر عنها )) ([132]).
فيجب على المســــــلم أن يتوجه بسؤاله لله وحـــده، لاسيما في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، فمن طلبها من غير الله فقد أشرك مع الله غيره، كمن يدعو أصحاب القبور ونحوهم، قال تعالى: ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَة [ ([133]).
أما سؤال الناس في الأمور التي يقدرون عليها، فقد وردت نصوص كثيرة تذم طلبها منهم، وتثني على المتعففــــين الذين لا يســــألون الناس، قال تعالى: ] لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[ ([134]).
وقد بايع النبي e جماعة من أصحابه عل ألا يسألوا الناس شيئاً منهم : أبو بكر الصديق ، وأبو ذر ، وثوبان ، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه (([135]).
وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيل الحكــــم في هذه المســـألة فقال: (( وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافيته، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، أو غفران ذنبه، أو دخول الجنة، أو نجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن والعلم، أو أن يصلح قلبه، ويحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك، فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لا لملك ولا نبي، ولا شـــــــيخ، ســـــواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي ، ولا انصرني على عـدوي ، ولااشـف مريضي ، ولا عافني وعافي أهلي ودوابي، وما أشـبه ذلك ، ومن ســأل ذلك مخلوقاً – كائناً من كان - فهو مشرك بربه، من جنس المشركين، الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل، التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، وقال تعالى: ] وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [ ([136])، وقال تعالى: ] اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[([137]).
وأما ما يقدر عليه العبد، ويجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهياً عنها، وقال تعالى: ] فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)[ ([138])، وأوصى النبي e ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وأوصى النبي e طائفة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولني إياه…، ومن الأمر المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمرنا النبي e بالصلاة عليه، وطــلب الوســيلة له ، وأخبرنا بمالــنا بذلك من الأجر إذا دعونا بذلك ([139])… ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه ، وممن هو دونه … لكن النبي e لما أمرنا بالصلاة عليه ، وطلب الوسيلة له ، ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً ، وان من سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة ، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك ، وفرق بين من طلب من غيره شيئاً لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط )) ([140]).
وكيف يطلب من غير الله كشف الضر أو جلب النفع، وذلك كله بيده I، قال تعالى: ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [ ([141])، وقال سبحانه: ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [ ([142]).
والله I يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، قال e: ( من لم يدْعُ الله سبحانه يغضب عليه)([143]).، ويستدعي من عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك.
وقال تعالى : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ ([144])، ويقول الرسول e: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعونـــي فأســـتجيب له، من يسألني فأعطيه، من يســـتغفرني فأغفر له) ([145]).
وعن أبي ذر t عن النبي e فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ([146]).
يقول ابن القيم (ت 751 هـ ) في شرح هذه المسألة: (( وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر، وأنه لا رب غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه، ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل الأمر كله لله، ليس لأحد سواه منه شيء، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحسنهم إليه: ] لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمـــــْرِ شَيْء[ ([147]) وقال جـــواباً لمن قال: ] هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [ ([148]) ] قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ[ ([149])، فالملك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ] قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون[([150]) ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِـضُرٍّ فَلاَ كَاشــــِفَ لَـــهُ إِلاَّ هــــُوَ وَإِن يَمــْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [ ([151])،] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ([152]) فاستعذ به منه، وفرّ منه إليه، واجعل لجاك منه إليه، فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئاً، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهـــــب بالسيئات إلا هــــو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سم ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء ))([153]) .
ولــذلك قــال تعالى ؛ مخــبراً عن نوح u أنه قال لقــومـــه : ] إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ [ ([154]).
فنوح u قال لقومه: إن كان عظم عليكم مقامي فيكم بين أظهركم، وتذكيري إياكم بحجج الله وبراهينه، ] فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ [؛ فإني لا أبالي، ولا أكف عنكم، سواء عظم عليكم، أولا، فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم، الذين تدعون من دون الله، من صنم ووثن، ]ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً[، أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إليّ ولا تتأخروا ساعة واحدة، مهما قدرتم فافعلوا ؛ فإني لا أباليكــم ، ولا أخاف منكم؛ لأنكم لستم على شيء ([155]).
وقال تعالى، مخبراً عن هود u:] قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ ([156]).
يبين هود u أنه واثق غاية الوثوق أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى؛ ولهذا أشهد الله وأشهدهم أنه u بريء من جميع الأنداد والأصنام، ثم قال لهم: ] فَكِيدُونِي جَمِيعًا [ أي اطلبوا لي الضرر كلكم، أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً، بكل طريق تتمكنون بها مني ولا تمهلون طرفة عين، ] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ[ واعتمدت عليه في أمري كله، فهو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلوا اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي، لم تقدروا على ذلك؛ فإن سلطكم فلحكمة أرادها، ] إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ أي على عـــدل وقسط وحكمــــة، لا تخرج أفعـــــاله عن الصراط المستقيم، التي يحمد، ويثنى عليه بها ([157]).
أما سؤال الناس فيما يقدرون عليه فتركه أولى، وذلك أن في طلب الناس وسؤالهم ذلة وخضوعاً، والمسلم مطالب بإظهار كمال الذل والخضوع لله وحده لا شريك له.
يقول ابن رحب: (( واعلم أن سؤال الله تعالى، دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المســـؤول على دفع هذا الضرر، ونيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضــار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة )) ([158]).
وقال في كتاب آخر: (( واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، وذلك من وجوه متعددة، منها: أن السؤال فيه بذل ماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة.
ومنها أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره ؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر، وليس هو بقادر.
ومنها أن الله يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه، …
ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فاستجيب له …، فأي وقت دعاه العبد وجده سميعاً قريباً مجيباً، ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق؛ فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات )) ([159]).
ولهذا كان عقوبة من سأل الناس تكثراً أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، كما ثبت عن النبي e أنه قال: ( ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم )([160]) .
وقال e : (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة، حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً)([161]).
في هذا الحديث يبين الرسول e أن من يحل له المسألة من الناس ثلاثة: الأول صاحب الحمالة، وهو أن يكون بين القوم تشاحن، في دم أومال، فيسعى رجل في إصلاح ذات بينهم، ويضمن مالاً يبذل في تسكين ذلك التشاحن، فإنه يحل له السؤال، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ ذمته عن الضمان، وإن كان غنياً، والثاني: أن يكون معروفاً بالمال، فيهلك ماله بسبب ظاهر كالجائحة، فهذا يحل له الصدقة، حتى يصيب ما يسد خلته به، ويعطى من غير بينة، تشهد على هلاك ماله؛ لأن سبب ذهاب ماله أمر ظاهر، والثالث: صاحب مال هلك ماله بسبب خفي من لص، أو خيانة، أو نحو ذلك، فهذا تحل له المسألة، ويعطى من الصدقة بعد أن يذكر جماعة من أهل الاختصاص به، والمعرفة بشأنه أنه قد هلك ماله)) ([162]).
وقد ذكر النووي (ت 676 هـ)، اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: (( واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق )) ([163]) .
وإذا علم المسلم أن الغني القادر الذي بيده الخير كله هو الله I، تربى على الأنفة والاستغناء عن المخلوقين، وعلم أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو التعلق بالله تعالى والتوكل عليه، وعبادته والالتجاء إليه، مع الأخذ بأسباب الجد والعمل، وبذلك يحفظ المسلم ماء وجهه من التذلل والسؤال، وخفض الأكف والانكسار للأشخاص مهما كانوا، فيحفظ كرامته، وتبقى له عزته ومكانته.
المبحث السادس
في قوله e : ( وإذا استعنت فاستعن بالله )
الاستعانة طلب العون من الله تعالى، بلسان المقال، كأن تقول، عند شروعك بالعمل: اللهم أعني، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى الله تعالى أن يعينك على هذا العمل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز، أو طلب العون بهما جميعاً، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال([164]).
فتجب الاستعانة بالله تعالى على تحمل الطاعات، وترك المنهيات، كما تجب الاستعانة به سبحانه على الصبر على المقدورات؛ فإن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الإتيان بهذه الأمور، ولا بد له من طلب الإعانة من ربه I، ولا معين للعبد على مصالح دينه ودنياه إلا الله U، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن فرط في حق الله تعالى، لم يعنه الله، فهو المخذول.
يذكر ابن كثير ( ت 774 هـ ) أن الدين كله يرجع إلى العبادة والاستعانة، فالعبادة تبرؤ من الشرك، والاستعانة تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله U، وهذا المعنى في غير آية من القرآن([165])، مثال ذلك قوله تعالى: ] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ ([166])، وقوله تعالى: ] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا[ ([167])، وقوله: ] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْـرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً[ ([168])، وقوله: ] وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ ([169])، ونحو ذلك من الآيات.
ولهذا أشار الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، أن معنى الاستعانة: ((سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة)) ([170])
ويعرف أحد العلماء الاستعانة بقوله : (( والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى ، في جلـــب المنافع ، ودفع المضـــار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك ))([171])
ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى : ) إياك نعبد وإياك نستعين ([172]) (
هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة، التي ( هي أعظم السور في القرآن ) ([173])
ومعنى ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( : أي نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة ، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور وفيه عما عداه ، ف:انه يقول : نعبدك ،ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك ، أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا([174]) .
(( وللقيام بعبادة الله تعالى، والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما ، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله e، مقصوداً بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ؛ فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي))([175])
وجاء في الحديث الصحيح قوله e: ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولاتعجز )([176])، أي احرص على طاعة الله تعالى ، والرغبة فيما عنده ، واطلب الإعانـة من الله تعالى على ذلك ، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة([177]).
ولهذا كان النبي e يعلم أصحابه خطبة الحاجة ، وهي : ( أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره … )([178]) الحديث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وتستحب هذه الخطبة في افتتاح مجالس التعليم ، والوعظ ،والمجادلة ، وليست خاصة بالنكاح ) ([179]).
وعن معــاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله e أخذ بيده ، وقال : (يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ([180]).
وكان النبي e يدعو ويقول : (رب أعني ، ولا تُعن عليّ) ([181]) الحديث .
فالمسلم مطالب بالاستعانة بالله تعالى في فعل المأمورات ، واجتناب المنهيات .
يقول ابن تيمية عند تفسير قوله تعالى: ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( : ((وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء ، وإذا كان قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه …، كما أمر بهما في قوله: ] فاعبده وتوكل عليه [، والأمر له ولأمته، وأمره بذلك في أم القرآن، وفي غيرها، لأمته؛ ليكون فعلهم ذلك طاعة لله، وامتثالاً لأمره، لا تقدماً بين يدي الله ورسوله، وإلى هذين الأصلين كان النبي e يقصد في عبادته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله في الأضحية: ( اللهم هذا منك ولك وإليك ) ([182])؛ فإن قوله: منــك ، هو معنى التوكـــل والاستعانــة ، وقولــه : لك، هو معنى العبادة )) ([183]) .
وقال في موضع آخر: (( فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، فهــاتان الكلمتــان قد قيل إنهــما تجمعان معانــي الكتب المنزلة من السماء )) ([184]) .
ويذكر ابن القيم أن آية ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ ((
 
رد: احفظ الله يحفظك

متضمنة لأجلّ الغايات وأفضل الوسائل، فأجلّ الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل …، وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته …، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه )) ([185]) .
كما أن العبد مطالب بالصبر والاستعانة بالله تعالى عند وقوع المصائب والابتلاءات، ولهذا قال يعقوب u، عند وقوع مصيبته: ] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ ([186]).
ولما قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة رضي الله عنها قالت: (( والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: ] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[، فبرأها الله مما قالوا )) ([187]).
وعندما هدد فرعون موسـى وقومـه ، ] قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[([188])، فجاء الأمر على خلاف ما أراد فرعون؛ إذ أعزهم الله وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده ([189]).
وأخبر الله تعالى عن الرسول e أنه لما كذبه قومه: ] قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون [ ([190])، أي والله المستعان عليكم فيما تقولون وتفترون من التكذيب والإفك ([191]).
وكان عمر بن الخطاب t يدعو في قنوته بقوله: ( اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك ) ([192]) .
ولما بشَّر الرسول e عثمان بن عفان t بالجنة، مع بلوى تصيبه، قال t: ((اللهم صبراً، الله المستعان )) ([193]).
وقد قال الرسول e لأحد الصحابة: ( قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة ) ([194]). يقول ابن حجر (ت 852 هـ)، (( تسمى هذه الكلمة كنزاً؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس …؛ لأن معنى ( لا حول ) لا تحويـل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله …، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة )) ([195]). ويقول النووي: (( قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعـان له … )) ([196]). فهــي كلمـة عظيــمة تتضمن اعتراف العبد بأنه لا تحول له من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بإعانة الله وحده. فالاستعانة لا تطلب من أي إنسان، إلا عند الضرورة، وفيما يقدر عليه فقط، وإذا اضطر العبد الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فعليه أن يجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً يعتمد عليه، وإنما الركن الأصيل الذي يعتمد عليه في الدعاء والسؤال والاستعانة هو الله وحده لا شريك له. كما أنّ على العبد إذا احتاج إلى الاستعانة بالمخلوق، كحمل صندوق مثلاً، أن لا يشعر نفسه أن هذه استعانة كاستعانته بالخالق، وإنما عليه أن يشعر أنها كمعونة بعض أعضائه لبعض، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة، فإنه يستعين على حمله باليد الأخرى ([197]). وعلى هذا فالاستعانة بالمخلوق، فيما يقدر عليه، كالاستعانـــة ببعض الأعضاء، فلا ينافي ذلك قوله e : ( فاستعن بالله ). فإذا وقع العبد في مكروه وشدة فلا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله بعد الاستعانة بالله تعالى، ولا يكون هذا شكوى للمخلوق؛ فإنه من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس، بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف u للذي ظن أنه ناج من الفتيين ([198]): ] اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ[ ([199]). والمصيبة العظيمة، والخطر الجسيم فيمن يسأل أو يستعين بأصحاب القبور، أو غيرهم ممن يسمون بالأولياء والصالحين، سواء أكانوا أمواتاً أم أحيـــاء فيسألهـــم ويستعين بهم فيما لا يقدرون عليه من جلب نفع أو دفع ضر، أو رزق ولد، أو دخول الجنة، أو النجاة من النار، ونحو ذلك مما هو واقع في بعض البلاد، فإن هذا شرك بالله تعالى، إذ هو وحده القادر على كل شيء، وما دونه من نبي أو ولي لا يملك لنفسه جلب الخير أو دفع الشر إلا بإذنه I، ولهذا قال الله I لنبيه محمد e: ] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء [ ([200])، فهذه الآية تبين جهل من يقصد النبي e ، ويدعوه لحصول نفع، أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعـه الله عنــه ، ولا لــه من العلــم إلا ما علمه الله. ويقول I: ] وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ ([201])، هذه صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه، ولا لغيره، نفعاً ولا ضراً ] ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ[ الذي بلغ في البعد حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني، وأقبل على عبادة مخلوق مثله، أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب؛ ولهذا قال ] يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ [؛ فإن ضرره في العقــل والبــــــدن، والدنــــيا والآخرة معلوم، ] لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ أي لبئس هذا المعبود والقرين، الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى والعشير حصول النفع، ودفع الضر، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فإنه مذموم ملوم ([202]). ولهذا ينبه الله تعالى على حقارة الأصنام، وسخافة عقول عابديها بقوله تعالى:: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ ([203]). يقول ابن دقيق العيد في شرح هذا الجزء من توجيه رسول الله e لابن عباس: (( أرشده إلا التوكل على مولاه، و أن لا يتخذ إلهاً سواه، ولا يتعلق بغيره، في جميع أموره، ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه[ ([204])، فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى، بطلبه، أو قلبه، أو بأمله، فقد أعرض عن ربه، بمن لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله )) ([205]). ومما يــدل عليه قوله e: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) أن الإيمان يشمل العقائد القلبية، والأقوال، والأعمال، كما هو المذهب الحق، وهو قول أهل السنة والجماعة؛ فإن (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان )([206])، وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. ويدل هذا الحديث العظيم على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله، ولهذا قال العلماء بكراهية المسألة لغير الله U، في قليل أو كثير، والله I إذا أراد إعانة أحد يسر له العون، سواء أكان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يعين الله العبد بسبب غير معلوم له، فيدفع عنه من الشرّ ما لا طاقه لأحد به، وقد يعينه الله على يد أحد من الخلق يسخره له، ويذلّله له حتى يعينه، ولكن مع ذلك لا يجوز للعبد إذا أعانه الله على يد أحد أن ينسى المسبب وهو الله e ([207]) .
المبحث السابع
في قوله e: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعـوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) يبين الرسول e في هذا الكلمات أن الأمة لو اجتمعت واتفقت كلها على نفــــع إنســــان بشيء لم يستطيعــــوا نفعه إلا بشيء قد كتبه الله وقدره له، وإن وقع منهم نفع له فإنما هو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه وقدره . فالرسول e لم يقل لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، وإنما قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)، فالناس ينفع بعضهم بعضاً، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل فيه لله U أولاً، فهو الذي سخر لك من ينفعك، ويحسن إليك، ويزيل كربتك. وكذلك لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، (( والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقاً بربه، ومتكلاً عليه، لا يهتم بأحد؛ لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وحينئــــذ يعلق رجاءه بالله، ويعتصم به، ولا يهمه الخلق، ولو اجتمعوا عليه، ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه لم يضرّهم كيد الكائدين، ولا حسد الحاسدين: ] وَإِن تَصــــــْبِرُواْ وَتَتَّقـــــُواْ لاَ يَضُرُّكـــــُمْ كَيْدُهـــــــُمْ شَــــــيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلــُونَ مُحِــــيط [ ([208]) … )) ([209]). فالإيمان بالقضاء والقدر، والاعتماد على الله وحده، في كل الشؤون، سكينة واطمئنان للعبد، إذ لا يبالي بما يدبــــره الخلــــق أو يهددونه به، لأنه يعلم أن الخير والشر بتقدير الله تعالى، والنفع والضر بإرادته وحكمته سبحانه، فلا يســـتطيع أحد من الخلــــق أن يحقـــق للعبد أذى أو ابتلاء إلا بإذن الله تعالى لحكم يريدها سبحانه، بل الله يدافع عنه وينصره ويؤيده، وكذلك لا يستطيع أحد من الخلق تحقيق منفعة للعبد لم يأذن بها الله تعالى. كما أن الإيمان بالقضاء والقدر، وبما جاء في هذا الجزء من الحديث، من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد، فلن يستطيع الأعداء أن يضروا أحداً بشيء مهما خططوا وتآمروا إلا بشيء قد كتبه الله وقدره لحكم أرادها. والشجاعة ليست هي قوة البدن، فقد يكون الرجل قوي البدن، ضعيف القلب، وإنما الشجاعة قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن، وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمـــود منهما ما كان بعلم ومعرفــــة، دون التهـــــور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم ([210]). فهذا الحديث العظيم يوجب الإيمان بالقضاء والقدر ، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، والإيمان به يتضمن الإيمان بمراتبه الأربع، وهي: المرتبة الأولـى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وأقوالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم، وإسرارهم وعلانياتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، قال تعالى: ] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة [ ([211])، وقال سبحانه: ] عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ[ ([212])، وقال: ]وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[ ([213])، وقال e : ( إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم )([214])، ولما سئل e عن أولاد المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)([215])، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث: (( أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة t عن النبي e قال: (إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، و يبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم )) ([216]). المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن، وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح والقلم. قال تعالى: ] وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين[ ([217])، وقال سبحانه: ] إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب[([218])، وقال: ] وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِــهِ وَمَا يُعَـمَّرُ مِن مُّعَــمَّرٍ وَلاَ يُنقَــــــصُ مِنْ عُــــــــمُرِهِ إِلاَّ فِي كِـــــتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ ([219])، وقال e : (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتب شقية أو سعيدة )([220]). المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون، ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه، لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [ ([221]). ومن أدلة هــــذه المرتبة قوله :I ] وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّه[ ([222])، وقولـــه تعالــى : ] مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ ([223])، وقوله تعالى : ] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ ([224])، وقوله e : (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)، ثم قال e : (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك )([225]). المرتبة الرابعة : الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه ما من ذرة في السموات ولا في الأرض ولا فيما بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها، I لا خالق غيره ولا رب ســــواه ، قــــــال تعالى : ] اللَّهُ خَالِــــقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[ ([226])، وقال سبحانه: ] هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْض[ ([227])، وقال تعالى : ] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُــم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُــم مِّن شَـيْءٍ [ ([228])، وقال تعالى: ] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[ ([229])، وعن حذيفة t مرفوعاً: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)([230]). والإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع، فمن نفى القدر زاعماً منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته، وجعل العبد مستقلاً بأفعاله خالقاً لها، فأثبت مع الله تعالى خالقاً، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون، ومن أثبت القدر محتجاً به على الشرع، نافياً عن العبد قدرته واختياره فقد نسب الله تعالى إلى الظلم. وليعلم أن الله I الذي أمرنا بالإيمان بالقضاء والقدر، أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب، فقال تعالى: ] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ [ ([231])، وقــال الرســـول e : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له )([232])، وفي هذا رد على المتخاذلين، المستسلمين لأهوائهم وشهواتهم، محتجين بتقدير الله تعالى ذلك عليهم، فعلى المسلم أن يحرص على حسن الاتباع لما جاء به الرسول e ، مع إخلاص العمل لله تعالى، وسلامة العقيدة، والاجتهاد بالأخذ بالأسباب، والسعي وبذل الجهد، فمن ترك الأسباب محتجاً بالقدر فقد عصى الله تعالى وخالف شرعه. والمؤمنون حقاً يؤمنون بالقدر خيره وشره وأن الله خالق أفعال العباد، وينقادون للشرع أمره ونهيه، ويحكمونه في أنفسهم سراً وجهراً، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله ([233](. قال أبو بكر محمد بن الحسبن الآجُرِّي (ت 360هـ): (( قد جرى القلم بأمره U في اللوح المحفوظ بما يكون، من بِرّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء ] ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ ([234])، وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء ))([235]).
وقوله e في الرواية الثانية: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هو توجيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فقوله: (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم يصل إليك، (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك)؛ لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك، (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك)، وإنما هو مقدر عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير وشر، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك، قال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [ ([236])، وقال تعالى: ] قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا[ ([237]) . وقال سبحانه: ] قُـل لَّوْ كُنتُـمْ فِي بُيُوتِكُــمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِــمُ الْقَتْــلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [ ([238]). وثبت في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله فيمَ العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال: (لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال: ففيم العمل ؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)([239]). فلابد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهــم جميعاً. قــال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْـدِ قَلْبَـهُ وَاللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ ([240]) . يعني أن من أصـابته مصـيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قــال، في قوله تعالى: ] وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْــدِ قَلْبَهُ[: يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيـــــبه ([241]) . يقول ابن دقيق العيد: (( هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجــــب، خيره وشــره، و إذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به )) ([242]). ومما يجب أن يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح وحسن الاتباع، ولهذا لما أخبر النبي eأصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، قال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال e(اعمـــلوا فكل ميسر)([243])، ثم قــــــرأ: ] فَأَمَّا مَن أَعْطــــــَى وَاتَّقَى (5) وَصـــــَدَّقَ بِالْحُســْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[ ([244]). (( فالله I قدر المقادير وهيأ لها أسباباً، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهاداً في فعلها والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن )) ([245]) . وقد قال النبـي e : (احرص على ما ينفعـك واستعن بالله ولا تعجز )([246])، وروى عنه e أنه لما قيل له: أرأيت دواءً نتداوى به ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: (هي من قدر الله )([247])، يعني إن الله I قدر الخير والشر، وأسباب كل منهما ([248]). والأسباب وإن عظمت إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئاً، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، وعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلـهــا قد كتب في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، (( وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير )) ([249]) .ولهذا جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله e : (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكــن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه )([250]). يقول ابن رحب: (( واعلم أن مدار جميع هذه الوصية من النبي e لابن عباس على هذا الأصل، وما بعده وما قبله متفرع عليه وراجع إليه، فإنه إذا علم العبد أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم جميعاً على خلاف المقدور غير مفيد شيئاً البتة، علم حينئذ أن الله تعالى وحده هو الضار النافع ، والمعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه U، وإفراده بالاستعانة والسؤال والتضرع والابتهال، وإفراده أيضاً بالعبادة والطاعة، لأن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله I من يعبــد ما لا ينفــع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، وأيضاً فكثير ممن لا يحقق الإيمان وقلبه يقدّم طاعة مخلوق على طاعة الله رجاء نفعه أو دفعاً لضره، فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر، وبالعطاء والمنع، أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة، ويقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعــاً، كما يوجب ذلك أيضاً إفــراده ســبحانه بالاســتعانة به والطلب منه )) ([251]) .ثم قال أيضاً شارحاً حديث ابن عباس : (( ثم عقب ذلك بذكر إفراد الله بالسؤال و إفراده بالاستعانة، وذلك يشمل حال الشدة وحال الرخاء، ثم ذكر بعد هذا كله الأصل الجامع الذي تنبني عليه هذه المطالب كلها ،وهو تفرد الله I بالضر والنفع والعطاء والمنع، وإنه لا يصيب العبد في ذلك كله إلا ما سبق تقديره و قضاه له، و أن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدر في الكتاب السابق، و تحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق، وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة و العبادة أيضاً، وأن يقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، وأن يتقي ســــخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً )) ([252]) . وفي قوله e: (وما أصابك لم يكن ليخطئك) أعظم وقاية ضد القلق النفسي، وسائر الهواجس والاضطرابات النفسية، التي يشتكي منها كثير من الناس، حتى سماها بعضهم بمرض العصر، فمن آمن بهذا الحديث اطمأن قلبه وانشرح صدره، وعلم أن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وأنه خير له، فيبتعد عن التضجر والزفرات والحسرات، جاء في الحديث الصحيح قوله e : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ([253]
) .
 
رد: احفظ الله يحفظك

المبحث الثامن
في قوله e :( رفعت الأقلام وجفت الصحف )أي تركت الكتابة في الصحف، لفراغ الأمر وانبرامه منذ أمد بعيد، فقد تقدم كتابة المقادير كلها، فما كتبه الله فقد انتهى ورُفع، والصحف جفت من المداد، ولم يبق مراجعة . فما أخطئك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ([254])، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاســتعانة به ، ولهذا قال : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ): أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل ([255]).
ويشهد لهذا قوله تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير[ ([256])
وقوله e (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يارب، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) ([257]) .
وقوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)([258]).
وعن أبي الدرداء t عن النبي e أنه قال: (فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من أجله، ورزقه، وأثره، ومضجعه، وشقي أو سعيد) ([259]).
وعن جابر tأن رجلاً قال: يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال: ( لا، بل فيما جفت به الأقـــــلام وجرت به المقاديـــر) قال: ففيـــــم العمــــل ؟ قال: ( اعملــــوا فكل ميسر ) ([260]).
وعن ابن مسعود t عن النبي e قال: ( خلق الله كل نفس، وكتب حياتها، ورزقها، ومصائبها )([261]).
وفي قوله: ( رفعت الأقلام ) جاءت ( الأقلام ) في هذا الحديث وفي غيره، مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً، وقد ذكر العلماء أقساماً للأقلام، وهي ([262]):
القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو القلم الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وهذا أول الأقلام وأفضلها وأجلها، كما دل على ذلك قوله e : ( أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: يارب، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) .
القلم الثاني: قلم الوحي: وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وقد رفع النبي e ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ([263])، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوجبه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسُّفلي .
القلم الثالث: حين خلق آدم u، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم.
القلم الرابع: حين يُرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما قال e :( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ) ([264]) الحديث.
القلم الخامس: الموضوع على العبد، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما قال تعالى: ] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [ ([265]).
وقوله e : ( رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم ) ([266]).
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟
- فقيل بأن العرش قبل القلم لقوله e : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم.
- وقيل بأن القلم أول المخلوقات بدليل قوله e: ( أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ).
ولعل القول الأول أصح للحديث الصريح الصحيح السابق الذي يدل على أن العرش مخلـوق قبل تقدير الله مقادير الخلق، أما قوله e : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ) فإن معناه: عند أول خلقه قال له اكتب، ويدل عليه لفظ: ( أول ما خلق اللـه القـلم قال له اكتب )، بنصب (أولَ) و (القلمَ)، وحملت رواية الرفع ( أولُ) و( القلمُ) على أن القلم أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث القول الأول يدل على أن العرش سابق على التقدير، وحديث القول الثاني يدل على أن التقدير مقارن لخلق القلم ([267]).
وقد رجح القول الأول ابن تيمية، وذكر أنه مذهب (( كثير في السلف والخلف )) ([268]).
هذا وقد رجح بعض أهل العلم أن القلم أول مخلوق، واستدل برواية: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون ) ([269])، قال الألباني: (( وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق، ولا نص في ذلك عن رسول الله e …، فالأخذ بهذا الحديث – وفي معناه أحاديث أخرى – أولى؛ لأنه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص، كما هو معلوم، وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل؛ لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها ، ومنها القلـــم ، أما ومثل هذا النص مفقـود، فلا يجــوز هذا التأويل )) ([270]) .
والإيمان باللوح والقلم هو من الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا يذكرهما هل العلم ضمن الإيمان بالمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر، وهي مرتبة الإيمان بكتابة المقادير، ويدخل في هذه المرتبة خمسة من التقادير هي:
الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم، قال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [، وقال الرسول e : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألـف سـنة ، قـال : وكان عرشـه على المـاء ) ([271]) ، وقال e : ( أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، فقال: يا رب وماذا أكتب ؟ فقال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) ([272]) .
الثاني: التقدير العمري، حين أخذ الميثاق، قال تعالى: ] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين[ ([273])، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي e قال: ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم u بنعمان - يعني عرفه - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرها بين يديه، ثم كلمهـم قبلاً، قال U : ] أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا [ إلى قولـه تعالى : ] المبطلون [ ([274]).
الثالث: التقدير العمري أيضاً، عند تخليق النطفة في الرحم، قـــال تعالى: ] هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ ([275]) وقوله e : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربـــع كلمـــات ، يكتب رزقــه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد …) ([276]) الحديث .
الرابع : التقدير الحولي، في ليلة القدر، قال تعالى: ] فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا) [[277]).
الخامس: التقدير اليومي، قال تعالى: ]كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ )[278](.
(( وكل هذه التقادير كالتفصيل في القدر السابق، وهو الأزلي الذي أمر الله تعالى القلم عند خلقه أن يكتبه في اللوح المحفوظ، وبذلك فسر ابن عمـــر وابن عـــباس y قولـــه تعالــى : ]إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [ )[279])، وكل ذلك صادر عن علم الله الذي هو صفته تبارك وتعالى )) ([280]).
المبحث التاسع
في قوله e :(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرف بذلك إلى الله، فعرفه ربه في الشدة، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة.
يذكر ابن رجب أن معرفة العبد لربه نوعان: (( أحدهما – المعرفة العامة، وهي معرفة الإقرار به والإيمان، وهذه عامة للمؤمنين.
والثاني - معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه)).
كما يذكر ابن رجب أن معرفة الله لعبده نوعان، أيضاً، هما: الأول: معرفة عامة، وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه عليهم، قال تعالى: ] هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتــُمْ أَجِــنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكـــُم [ وقال تعالى: ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ[.
والثاني: معرفــــــة خاصــــة، وهي تقتضـــي المحبــــة وإجابة الدعاء ونحو ذلك ([281]).
ويقول ابن علان ( ت 1057 هـ ): (( …، ( تعرّف ) بتشديد الراء: أي تحب ( إلى الله في الرخاء ) بالدأب في الطاعات، والإنفاق في وجوه القرب والمثوبات، حتى تكون متصفاً عنده بذلك، معروفاً به، ( يعرفك في الشدة ) بتفريجها عنك، وجعله لك من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، بواسطة ما سلف منك من ذلك التصرف )) ([282]).
والمراد بقوله e ( يعرفك في الشدة ): أي المعرفة الخاصة التي تقتضي النصر والتأييد والقرب، قال e فيما يرويه عن ربه U: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) ([283]).
فمتى تعرّف العبد إلى الله في الرخاء المعرفة التامة الخاصة، وذلك بحرصه على إكمال إخلاص عبادته، وخضوعه لله تعالى، واتباعه لرسوله e، عرفه الله في كل وقت، وبخاصة في وقت الشدائد والكرب، فينصره الله ويؤيده، ويسدده في سمعه وبصره، ويده ورجله، ويعطيه سؤاله، ويعيذه ويحفظه.
يقول e : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء ) ([284]).
ويونس u إنما نجاه الله بـسبب ذكــره الله في الرخاء، قال تعالى: ] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ ([285]).
يقول الطبري: (( يقول تعالى ذكره: (فلولا أنه) يعني يونس كان من المصلين لله، قبل البلاء، الذي ابتلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ... ، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء؛فأنقذه ونجاه )) ([286])، وأشار إلى هذا القول ابن كثير بقوله : (( قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء )) تم نسبه إلى بعض أهل العلم. ([287]) واستدل عليه بحديث ابن عباس([288])، وقيل معناه لولا أنه سبح الله في بطن الحوت، وقال ما قال من التهليل والتسبيح، والتوبة إلى الله([289]).
وفرعون كان طاغياً باغياً، فلما أدركه الغرق ] قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين [ ([290]) فقال الله تعالى له: ] آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ ([291])، أي أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه، وكنت من المفسدين في الأرض الذين أضلوا الناس، فهو سبحانه يبين أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له ([292]) .
ومن اتقــــى الله في جميـــتع أحواله جعل الله له مخرجاً من المضائق والمحن، يقول الله تعالى : ] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب[ ([293]) أي من يتق الله يجعل له مخرجاً ونجاه من كل كرب في الدنيا والآخرة، ومن كل شيء ضاق على الناس، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله، ولهذا يروى عن ابن مسعود tأنه قال عن هذه الآية بأنها أكبر آية في القرآن فرجاً ([294])، (( فكل من اتقى الله ولازم مرضاته في جميع أحواله، فإن الله يثبته في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل شــدة ومشــــقة ، … ، ويســوق الله الـــرزق للمتقــــي من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به )) ([295]) .
وإذا كان من يتقي الله يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإن من لم يتق الله يقع في الآصار والأغلال والشدائد التي لا يقدر على التخلص منها، والخروج من تبعاتها ([296])، قال تعالى : ] إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ[([297]).
وقال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ[ ([298]).
وقوله سبحانه: ] إِنَّ الَّذِينَ قَالـــُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اســـــْتَقَامُوا فَلاَ خــَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنــُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ ([299]).
فمن عــــرف الله واســــتقام على شرعه تنزلت عليه الملائكــة بأن لا يخاف ولا يحزن، ويبشرونه بالجنة، وذلك عند موته وفي قبره وحين يبعث، وقيل بأن هذا التنزّل عند الاحتضار، والصحيح بأنه في الأحوال الثلاثة المذكورة آنفاً؛ ولهذا قال ابن كثير بعد ذكره أن البشارة من الملائكة للعبد تكون عند الموت، وفي القبر، وحين البعث: (( وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع ))([300]).
وإذا علم من قوله e : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) أن التعرف إلى الله في الرخاء يؤدي إلى معرفة الله لعبده في الشدة، وعلم بأن شدة الموت من أعظم الشدائد التي يلقاها العبد المؤمن، فالواجب المبادرة بالاستقامة والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة وإخلاصها لله وحده لا شريك له، فهي السبيل إلى تنزل الملائكة على العبد المؤمن عند الاحتضار بألا يخاف ولا يحزن والبشارة له بالجنة؛ كل ذلك في وقت الشدائد والكرب عند الموت، وفي القبر، وحين البعث، فلا بد من الاستعداد لتلك الأهوال العظيمة؛ فإن المرء لا يدري متى يفاجئه الموت، ويقبل على تلك الشدائد .
يقول الطبري في تفسير الآيات السابقة في سورة فصلت: (( يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا ربنا الله وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد، ثم استقاموا على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى …، تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم …، قائلة: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم …، وقيل إن ذلك في الآخرة، وقوله : ] وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [ يقول : وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله واستقامتكم على طاعته )) ([301])
ويقول في تفسير آية الأحقاف : (( يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا ربنا الله الذي لا إله غيره ثم استقاموا على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه، فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنـــون على ما خلفـــوا وراءهــــم بعد مماتهم، وقولـه تعالى: ] أولئك أصحاب الجنة [ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا أهل الجنة وسكانها ] خالدين فيها [ يقول: ماكثين فيها أبداً، ] جزاء بما كانوا يعملون [ يقول: ثواباً منا لهم، آتيناهم ذلك على أعمالــــهم الصالحة، التي كانوا في الدنيا يعملونها )) ([302]).
فلا بد من الاستقامة على شرع الله، والحرص على سلامة التوحيد مما قد يشوبه، في حال الصحة والرخاء، وفي جميع الأحوال، والاستعداد للقاء الله، فمن عرف الله في هذه الأحوال عرفه الله عند الشدائد فكان معه بتأييده وتوفيقه، يعينه ويتولاه، ويثبته على التوحيد، في الحياة وعند الممات، ومن نســي الله في حال صحته ورخائــــــه، ولــــم يستعد للقائه نســــيه الله، قال تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ ([303]).
ويجب التعرف إلى الله في رخاء العيش، وتكاثر الأموال، وذلك بأن تكون مصادرها حلالاً، بعيدة عن الربا، ونحوه، وأن تؤتى زكاتها، وينفق على أوجه الخير منها، ويحذر من الطغيان والإنفاق على المحرمات والمنهيات، فمن تعرف إلى الله في أمواله، وتصرف فيها وفق الشرع الحكيم عرفه الله في الشدة، و ذلك بأن يسهل له أبواب الرزق، ويسدده لاستعماله على الوجه المطلوب شرعاً، ويلهمه شكره وحمد الله تعالى عليه، قال تعالى: ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب[ ([304])، وقال سبحانه: ]وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا[ ([305])، وقال عن أهل الكتاب: ] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِــم مِّن رَّبِّهــــِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم[ ([306])، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تبديل، ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً e ؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه، والأمر باتباعه، حتماً لا محالة، ومن ثم ( لأكلوا …) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء، والنابت لهم من الأرض ([307]) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله e فقال: ( يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا .
ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم .
ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولو لا البهائم لم يمطروا .
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم .
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم ) ([308])
وفي رواية: ( ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله U عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة، إلا حبس الله عنهم القطر ) ([309]) .
فمن عمل لله بالطاعة في جميع أوقاته، ولا سيما في الرخاء، عرفه الله في الشّدة ووجده تجاهه ينصره ويؤيده ويفرج عنه، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى غار فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها، فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة سبقت له مع ربه في الرخاء، فانحدرت عنهم الصخرة، فخرجوا يمشون ([310
 
رد: احفظ الله يحفظك

المبحث العاشر
في قوله e :( واعلم أن النصر مع الصبر )
يجب على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبر وفعل ما أمره الله به من وسائل النصر؛ فإن الله تعالى ينصره؛ لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيستحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد، فإذا أصابه الأذى استحسر، وتوقف، وقد يستمر، فيصيبه الألم من عدوه، فيكون عرضة لليأس والخذلان، فهذه الأمور كلها يجب الصبر عليها، والحذر من اليأس وأسبابه، وليعلم المسلم أن الصبر من أعظم أسباب النصر ([311])، قال تعالى: ]وَلاَتَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [([312]).
في هاتين الآيتين يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون، مسلياً لهم قائلاً: ] ولا تهنوا [ أي لا تضعفـــوا بسبب ما جرى ] ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ أي العاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون، ] إن يمسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، ثم قال تعالى: ] وتلك الأيام نداولها بين الناس [ أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكـــــم العاقبــــة لما لنا في ذلك من الحكمــة؛ ولهذا قال تعالى: ] وليعلم الله الذين آمنوا [ أي لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء، ] ويتخذ منكم شهداء [ يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته، ثم قال تعالى : ] وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (([313])، أي يكفر عنهم ذنوبهم، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، أما الكافرون فإنهم إذا ظفروا وبغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم. ([314])
ومن كلام السعدي في تفسير هذه الآيات قوله : (( يقول تعالى مشجعاً لعباده المؤمنين، ومقوياً لعزائمهم، ومنهضاً لهممهم، ) ولا تهنوا ولا تحزنوا[ أي: ولا تهنوا أو تضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى؛ فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وأعون لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم، وصبروها، وادفعوا عنها الحزن، وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمــن المبتغــي ما وعد الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك …)) ([315])
وقال تعالى: ]وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[ ([316])
أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فكما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، وأنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كمــــا وعدكـــــم إياه في كتابــــه وعلى لسان رسوله e، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلانها، وهو I أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه، وينفذه ويمضيه في أحكامه الكونية والشرعية، فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط؛ فإن الله سبحانه ينصره ([317]).
فهذه النصائح والتوجيهات توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط، والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزّه الدنيوي، إن ناله، ليس كمن يقاتل ويصبر لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته ([318]).
وفي قوله e : ( واعلم أن النصر مع الصبر ) تنبيه على أن الناس في هذه الدار معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب، لا سيما الصالحون منهم، فينبغي للمسلم أن يصبر ويحتسب، ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد الله تعالى له بأن عليه صلوات من ربه ورحمة وبأنه المهتدى، قال تعالى: ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِـــمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون[([319])، فالنصر من الله تعالى للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنما يوجد ( مع الصبر ) على طاعته، وعن معصيته، فهو سبب للنصر، ولهذا فإن الغالب على من انتصر لنفسه عدم النصر والظفر، وعلى من صبر ورضي بقضاء الله تعالى وحكمه تعجيلهما له كما هو المعهود من مزيد كرمه وإحسانه ([320]).
ولهذا يقول الله تعالى: ] وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين [ ([321])؛ لأنه سبب لنصرهم على أعدائهــم وأنفســهـــم وإعـــلاء لدرجاتهـــم ، وقال تعالى: ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَــتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين [ ([322]).
يقول السعدي في تفسير قوله تعالى : ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ….[ الآيات: (( أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، هذه فائدة المحن …، فهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها؛ فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب؛ فلهذا قال تعالى: ] وبشر الصابرين …[ أي: بشّرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة …، فكون العبد لله، وراجعاً إليه، من أقوى أسباب النصر…..
ودلّت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة والضلال والخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين …، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها؛ لتخف وتسهل إذا وقعت، وبيان ما تقابل به إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابرين من الأجر، ويعلم حال غير الصابر بضد حال الصابر… )) ([323]).
ويقول e : ( عجباً لأمر المؤمن . إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) ([324]).
وقال e : ( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)([325])، يدل هذا الحديث على أن صاحب البلاء يكون محبوباً عند الله تعالى إذا صبر على البلاء ورضي بقضاء الله U.
ومن الأدلة التي تؤكد أن النصر مع الصبر كثرة الآيات والأحاديث التي تأمر بالصبر عند لقاء العدو، منها: قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون[ ([326])، وقوله: ] فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ([327])، وقوله تعالى في قصة طالوت : ] فَلَمَّـا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين [ ([328])، وقولـه : ]بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُــم مِّن فَوْرِهِــمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [([329])، وقوله: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون[ ([330]) .
وقوله e : ( لا تمنّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا ) ([331]) .
والمسلم في هذه الحياة معرض لفتن كثيرة، ومعارك متنوعة، وابتلاءات في الأموال والأنفس، وأذى من المشركين والمخالفين، وأعظم أسباب الانتصار على كل هذا العقيدة السليمة، والعمل الصـــالح، والصبر والاحتساب، قال تعالى: ] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكــــُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَســــــْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصــــْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور [ ([332]) .
وإذا عظمت المحنة كان الصبر للمؤمن الصالح (( سبباً لعلو الدرجة، وعظيم الأجر، كما سئل النبي e أي الناس أشد بلاء ؟ قال: ( الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ) ([333])، وحينئذ يحتاج من الصبر إلى ما لا يحتــــــاج إليه غيــــره، وذلك هو ســـــبب الإمامة في الدين كما قال تعالى: ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[([334])، فلابد من الصبر على فعل الحسن المأمور، وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى، وعلى ما يُقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر، ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، وهو اليقين، ..؛ فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا بهما )) ([335]) . فالذي يستقيم على شرع الله ويحفظ حدوده ، ويصبر على العبادة ، وعلى ما يصيبه من الابتلاءات ، ويرضى بقضاء الله وقدره ، يتولاه الله ، ويوصل إليه مصالحه، وييسر له منافعه الدينية والدنيوية ، وينصره على عدوه ، ويدفع عنه كيد الفجار وتكالب الأشرار ، قال تعالى: ]فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[ ([336]) ، ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عزّ له، ولا قائمة تقوم له ([337]) .
فالصبر أمر واجب لا بد منه ؛ فإن الله تعالى أمر بالصبر ووعد عليه الأجر العظيم ، قــال تعالــى : ] إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب[ ([338])، وقال سبحانه: ] وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ[ ([339]) ، وقال: ] وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِــكَ الَّذِينَ صَدَقــُـــــوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّــقُونَ [ ([340])، وقال: ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ ([341]).
ويقول الرسول e : ( من يتصبّر يصبّره الله ، وما أعطى أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر ) ([342]) .
ولهذا قال عمر بن الخطاب: (( وجدنا خير عيشنا الصبر ))([343]) .
كما يجب أن يكون الــــصبر عند الصدمة الأولى للمصيبة أو الحادثة، قال e : ( إنما الصبر عند الصدقة الأولى ) ([344]) .
قــال ابن حجر: (( والمعنى إذا وقـــع الثبات أول شــيء يهجـــم على القلب من مقتضــيات الـجـــزع فذلك هو الصــبر الكامـــــــل ، الذي يترتــب عليه الأجـــر )) ([345])، ثم نقل قول الخطابي (ت388هـ): (( المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو )) ([346]).
فالصبر واجب في كل الأحوال، فيجب الصبر على العبادة وإقامة شرع الله تعالى، ويجب الصبر وحبس النفس عن المحرمات والمنهيات، ويجب الصبر عند وقوع المصائب والابتلاءات، وفي ميادين القتال ومنازلة الكفار.
أما بالنسبة إلى الرضا بالقضاء، فيختلف حكمه باختلاف الأمور السابقة؛ فإن الرضا بالواجبات الشرعية واجب من حيث إنه قدر الله وقضاؤه، ومن حيث المقضي إذ الرضا بالواجبات الشرعية والعمل بهما واجب، أما بالنسبة للمعاصي والمحرمات فمن حيث القضاء الذي هو فعل الله فيجب الرضا و أن الله تعالى حكيم ولولا حكمته اقتضت وجودها ما وقعت، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله والوقوع في المحرمات فيجب عدم الرضا بها والسعي لإزالتها، أما المصائب والابتلاءات فيجب الرضا بها من حيث إنها قضاء الله وفعله، أما الرضا من حيث وقوعها على العبد فإنه مستحب عند جمهور أهل العلم ([347]).
وأما الفرق بين الصبر والرضا؛ فإن الصبر كف النفس و حبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم، لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم ([348]) .
يقول ابن القيم: (( وأما حديث (الرضا بالقضاء) فيقال: أولاً: بأي كتاب: أم بأي سنة، أم بأي معقول علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره ؟ بل بجواز ذلك، فضلاً عن وجوبه ؟ هذا كتاب الله وسنة رسوله e، وأدلة العقول ليس في شيء منها الأمر بذلك، ولا إباحته، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخطه ويمقته، فلا نرضى بكل قضاء ..، ويقال: ثانياً: هاهنا أمران ( قضاء ) وهــو فعل قائم بذات الرب تعالى ؛ و ( مقضي ) وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء خير كله، وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان، منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به …، ويقال: ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به كله، الوجه الثاني: تعلقه بالعبد، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به، وإلى ما لا يرضى به )) ([349])
وفي موضــع آخر ذكر ابن القيم أن الناس تنازعــوا في الرضا بالقضاء (( هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله رباً، وذلك واجب …، ومنهم من قال هو مســـتحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلاً شرعياً، ولا دليل يدل على الوجوب، وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان، التي هي من أعلى المندوبات )) ([350]) ، ولعل مراده هنا الرضا بالمصـائــب من حيث وقوعــها على العبــد، بدليل قوله بعد ذلك : (( الحكم والقضاء نوعان: ديني وكوني، فالديني يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم، التي يجب شكرهــا، ومن تمام شكرهــــا: الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب، وفي وجوبه قولان، هذا كله في الرضاء بالقضاء الذي هو المقضي، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله، كعلمه وكتابته وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله رباً وإلهاً ومالكاً ومدبراً )) ([351])
المبحث الحادي عشر
في قوله e : ( واعلم أن الفرج مع الكرب )
كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج بإذن الله تعالى قريب؛ يدل على ذلك قوله تعالى: ] أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّــوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَــاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [ ([352]). (( فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله I )) ([353]).
يقول السعدي في تفسير هذه الآية: (( أي: هل يجيب المضطرب، الذي أقلقته الكروب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده ؟، ومن يكشف الســوء، أي : البلاء، والشر، و النقمة إلا الله وحده؟، ومن يجعلكم خلفاء الأرض ، يمكنكم منها ، ويمد لكم بالرزق ، ويوصل إليكم نعمه ، وتكونون خلفاء من قبلكم ، كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم ، أإله مع الله ، يفعل هذه الأفعال ؟
لاأحد يفعل مع الله شيئاً من ذلك ، حتى بإقراركم أيها المشركون ؛ ولهذا كانوا إذا مسهم الضر، دعوا الله مخلصين له الدين، لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه و إزالته، ] قليلاَ ما تذكرون [ أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادكرتم، ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم، فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم)([354]).
والكرب إذا اشتد و أيس العبد من جميع المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم ما تطلب به الحوائج، ومن توكل على ربه كفاه ([355])، ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه[ ([356]).
فالفرج يحصل سريعاً مع الكرب، فلا دوام للكرب، وحينئذ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابراً محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه، في جميع أموره، فالله I أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه؛ إذ هو I أرحم الراحمين .
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [ ([357])، وقوله تعالى: ] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِـــلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَــاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِـــرُونَ (48) وَإِن كَانُـوا مِن قَبْــلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِــم مِّن قَبْلِــهِ لَمُبْلِسِينَ [ ([358])، فهؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قانطين من نزوله إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم جاءهم على كرب وشدة وفاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فكان فرجاً وتيسيراً.
وقد قصّ الله تعالى في كتابه قصصاً كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، كقصة نجاة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن معه، في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض، وقصة نجاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار التي ألقاه المشركون فيها، وأنه سبحانه جعلها عليه برداً وسلاماً، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ولده الذي أمر بذبحه، ثم فداه الله بذبح عظيم، وقصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجى الله موسى في البحر وأغرق عدوه، وقصص أيوب ويونس ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وقصص محمد e في نصره على أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن، مثل قصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وكذا قصة عائشة في حديث الإفك، والبراءة منه، وقصة الثلاثة الذين خلفوا، وغير ذلك من قصص القرآن الكريم وأخباره ([359]) .
وفي السنّة أخبار كثيرة من تفريج الكرب عند اشتدادها، كقصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم([360])، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسارة مع الجبار الذي طلبها من إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرد الله كيد الظالم ([361])، وعندما اشتكى رجل إلى النبي e، وهو قائم يخطب يوم الجمعة، احتباس المطر وجهد الناس، فرفع رسول الله e يديه فاستسقى لهم، فنشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى، حتى قاموا إليه e وطلبوا منه أن يستصحي لهم، ففعل فأقلعت السماء([362])، إلى غير ذلك من القصص و الأخبار الثابتة .
والعبد معرض للمصائب والفتن، فقد تشتد عليه الأمور، وتضيق عليه الدنيا، ويتمكن منه الهم والحزن؛ فإذا صبر واحتسب، ولم ييأس من نصر الله وفرجه، والتجأ إلى مولاه بالدعاء والتضرع، في جميع أحواله، جاءه النصر والتأييد والفرج .
يروى عن الشافعي (ت 204هـ) قوله :
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقـــــــب الله في الأمور نجـا
من صدق الله لم ينـــــله أذى ومن رجـــــــاه يكون حيث رجـا ([363])
المبحث الثاني عشر
في قوله e :( وإن مع العسر يسراً )
أي أن كل عسر بعده يسر، بل إن العسر محفوف بيسرين ، يُسر سابق ويســر لاحـــق ، قال تعالى : ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[ ([364])
يقول السعدي : (( وقوله: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[: بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة؛ فإن اليسر يقاربه ويصاحبه … وتعريف ( العسر ) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر ) يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين .
وفي تعريفه بالألف واللام، الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عــــســر، وإن بلــغ من الصعوبـــــــــة ما بلــغ ، فإنه في آخـــــره اليــــسر ملازم له )) ([365]).
ويـــدل على ذلك أيضـاً قوله تعالى : ] سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[([366])، ففي هذه الآية بشارة للمعسرين بأن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة ([367]) .
والكرب والعسر والشدة أمور تصقل العبد وتصفيه من الشوائب؛ إذ تزيد من تعلقه بربه والالتجاء إليه بإخلاص وحسن اتباع، فتطهره من ذنوبه إذا صبر واحتسب، وأخلص وتابع، والعسر لا يدوم بالعبد بل معه اليسر والفرج .
وقد استدل ابن كثير ([368]) على هذه المسألة، بحديث عن رسول الله e، جاء في إحدى رواياته، عن أبي هريرة t قال: أصاب رجلاً حاجةٌ، فخرج إلى البرية، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجن، وما نختبز، فجاء الرجل والجفنة ملأى عجيناً، وفي التنور حبوب الشواء، والرحى تطحن، فقال: من أين هذا ؟ قالت: من رزق الله، فكنس ما حول الرحى، فقال رسول الله e : ( لو تركها لدارت أو طحنت إلى يوم القيامة ) ([369]).
و يدل على أن العسر إذا اشتد بالعبد؛ فإن بعده اليسر بإذن الله تعالى، قوله سبحانه: ]حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا[ ([370]). وقوله:] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب[ ([371])، فهنا يذكر الله تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله، في أحرج الأوقات، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ([372]) .
يقول السعدي عند تفسير الآية السابقة من سورة البقرة: (( يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة، كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه؛ فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقعة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها، ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان؛ فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه، فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ] مستهم البأساء والضراء [ أي الفقر والأمراض في أبدانهم، ] وزلزلوا [ بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه ] يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ ، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: ] ألا إن نصر الله قريب [ فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت – إذا صابر وثابر على ما هو عليه – انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشاق راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء، وشفاء ما في قلبه من الداء )) ([373]).
وأخبر I عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف عليه الصلاة والسلام وأخيه، وقال: ] عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا[ ([374])، وقال لبنيــه : ] يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُـــفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِــن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَـــوْمُ الْكَافِرُون[ ([375]).
فمن فوائد هذه القصة (( أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً؛ فإنه لما طال الحزن على يعقوب، واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب، ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، وحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطراراً، فتم بذلك الأجر، وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء والعسر واليســـر، ليمتحن صبرهـــم وشكرهم، ويزداد بذلك إيمانهم ويقينهم وعرفانهم )) ([376]).
وقد ذكر بعض أهل العلم أموراً عدّوها من حكم اقتران الفرج باشتداد الكرب، واقتران اليسر بالعسر، فمن ذلك :
1-أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، ووقع التعلق بالله وحده، I، فحينئذ يستجيب الله له ويكشف عنه ما به، فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، والاعتماد على الله وحده لا شريك له، والتوكل على الله من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[ .
2-أن العبد إذا وقع في عسر، واشتد عليه الكرب؛ فإنه يحتاج إلى مجاهدة نفسه، والشيطان، لأن الشيطان قد يأتيه فيقنطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب ذلك دفع البلاء عنه، وتيسير أمره، وتفريج كربته، ولهذا جاء في الحديث: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدَعُ الدعاء ) ([377]).
3-أن العبد إذا استبطأ الفرج، ولا سيما بعد الدعاء والتضرع، رجع باللائمة إلى نفسه، وبحث عن تقصيره، فأصلح خطأه، وعالج نقصه ([378]) .
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين .
وبعد .
فإنه من خلال دراسة هذا الحديث العظيم، وهذه الوصية الكريمة من رسول الله e ، يتبين ما يلي :
1- ضرورة تربية الناس، وبخاصة النشء على التعلق بالله تعالى، وحفظ حقوقه.
2- أن أعظم حقوق الله تعالى توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والحرص على سلامة العقيدة مما قد يشوبها من الشرك والبدع والضلالات، إذ إن سلامة العقيدة وإخلاص العمل لله تعالى مع حسن المتابعة لرسوله e هي شروط قبول العبادة؛ التي إن تأخر أحدها حبط العمل .
3- أن من حفظ حدود الله، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات فإن الله يحفظه في دينه ودنياه .
4- أن تحقيق هذا الحديث والعمل به يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق وعن سؤالهم، واستعانتهم، ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله I بالطاعة والعبادة، وتقديم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، والحذر مما يسخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً .
5- وجـــوب تربيــــــة الناس وتعليمهــم الإيـمان بالقضـاء والقدر وأن ذلك لا يناقض العمل والاجتهاد في العبادة، بل يوجبه ويدعو إليه .
6- وجوب التعرف إلى الله والالتزام بشرعه في جميع الأوقات، وبخاصة في أوقات الرخاء، الذي هو مظنة الفتور والنسيان، وأن ذلك التعرف هو سبب نصر الله وتأييده في الشدة وعند الكرب والعسر .
7- فهم هذا الحديث والعمل به من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد في سبيل الله، وذلك أن المسلم يعلم أن الضر و النفع بيد الله، وأن العبد لا يصيبه ضر ولا نفع إلا ما قدر عليه .
 
رد: احفظ الله يحفظك

بارك الله فيك وجزاك الله خير ولك بالمثل ان شاء الله
اخي الكريم
 
رد: احفظ الله يحفظك

هذا البحث هو شرح لحديث رسول الله e في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما حينما قال له وهو رديفه: ( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )، وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء [type=825004]يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ) . صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم وصدقت اخوي الصبر دائما متالق ربي يوفقك بجميع ماتطرح وماتنقل لهذا المنتدي مفيد وجميل بكل اشكاله لك خالص شكري وترشيحي لهذا الموضوع المميز ولك تقديري ربي يوفقك لعمل الخير دائما.[/type]
 
رد: احفظ الله يحفظك

بارك الله فيك اختي الكريمة غيوم المساء ولى الشرف ان تكون الى اخت مثلك فانتي نم الاخت

جزاك الله خير ولك بالمثل ان شاء الله
 
رد: احفظ الله يحفظك

بارك الله فيك اختي الكريمة الثغر الخجول جزاك الله خير
 
رد: احفظ الله يحفظك

تسلم الصبر وانا لي شرف ان يكون لي اخ مميز مثلك ربي يوفقك تحياتي لك يالطيب
 
رد: احفظ الله يحفظك

بارك الله فيك

حديث عظيم نسأل الله ان يجعلنا ممن يكون بحفظ الله في الدنيا والاخرة
 
رد: احفظ الله يحفظك

بارك الله فيك اخي الكريمة ابواسية جزاك الله خير
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

عودة
أعلى