كيف ألعب وأنا طفل صغير جداً؟

كيف ألعب وأنا طفل صغير جداً؟
د. فرانسوا إيتيان
قد يعتبر البعض مضيعة للوقت، وهذا ليس صحيحاً، بل هو نشاط تعليمي يجب التشجيع عليه، لأنه يفجر قدرات الاطفال ويفرغها على الاشياء ليحولها الى مفيدة ويدخل الراحة الى نفوسهم. لذلك يفترض تأمين المكان والزمان المناسبين، عبر تحديد ساعات للدراسة، وساعات للنوم وساعات للأغتداء وساعات للعب الحر الغير مقيد بإملاء الشروط وفرض المراقبة، فيقدر ما تكون ساحة اللعب واسعة وحرة، بقدر ما تمكن الاطفال من تحقيق الاهداف الايجابية من وراء اللعبة، فالبيئة الضيقة تخلق جواً من الكبت للنشاط الذي يكون في ذروة قوته وهذا يفرض عليكن أيتها الامهات تقبل ضجيج الاطفال دون أدنى إنزعاج فبقدر ما تتشعب إهتمامات الاطفال، بقدر ما تزداد قدراته على الابداع المنوع، تفتح أمامهم آفاق فهم المحيط بصورة أشمل وأدق وينمي تطورهم الذكائي.
لكي يكون اللعب حقل إختبار القدرات الاطفال الجسدية والذهنية لا بد وأن يكون مرهوناً بأعمارهم، اذ ليس كل الألعاب تناسب كل الاعمار فألعاب ابن العام الاول مثلاً لا تتناسب مع العاب الثالثة وهكذا، وهذا يتوقف على مدى تطورهم الذهني والجسدي الحركي، وتطور ملكاتهم الخاصة بالنطق. فحتى الشهر السادس، يختصر الاطفال ما يسمى باللعب، بأكتشاف أجسادهم ومحيطهم، وهي مرحلة تحرك فضولهم نحو الاهتمام، والاصغاء وفق إرادتهم، فبعد أن أستفردوا بهوية خاصة بهم، فهم يكتشفون ذاتهم بملامسات أمهاتهم، فحملهم والنظر اليهم، هو بمثابة لعب معهن، يفرض عليهن الاستجابة، وحركة أصابع أقدامهم وملامستها لطرف الاسرة هو لعب وماء الحمام، برغم كونه غاية تعمد الامهات من خلالها الى تنظيف هؤلاء الاطفال الا ان مفهوم العام لديهم هو اللعب بالماء. في السرير بهدف النوم، ينظر اليه هؤلاء على أنه لعب. حتى الشهر الثامن يحاول هؤلاء إضافة شيء من التطور على ادائهم الحركي المدروس، فهم الآن بمقدورهم الامساك بالأشياء وفق أشكالها، والتحرش بها. وحتى الشهر العاشر يمسكون بالأشياء ويتركونها وفق إرادتهم. وفي العام الاول من أعمارهم تصبح طريقة الامساك بالأشياء أكثر دقة بمشاركة الحاسة البصرية التي تتحرك مع حركة الايدي لرصدها. يتعلم الاطفال من اللعبة الاكتشاف والابداع والتعبير والمتعة، ويفهمون معنى تقدير الذات. وبعد ثلاثة أشهر بعد العام، يحاول الاطفال إرفاق لعبتهم بشيء من الثقافة على سبيل التزود بالمعرفة والتحصيل، ويبرهنون ذلك بتقليب الصفحات ومراقبة الصور، فهم في هذه السن أكثر ميلاً للاطلاع على تفاصيل الامور لا سيما المتعلقة بالبيئة، فيظهرون مزيداً من الفضول والتساؤل حول فراشة يشاهدونها في البرية، ويحاولون مزج الالوان، للحصول على لون معين طبعاً بمعاونة الامهات. ويحاولون معالجة الفشل بالتجربة مجدداً، فهم أكثر قدرة على إعادة بناء هرم رملي إنهار، لا يدركهم الملل ولو نجحوا في الانجاز بل يبادرون الى تكراره، وهذا بالتالي سوف ينعكس إيجابياً على مستوى قدراتهم الذهنية وينشطها. ويصبحون في هذا السن، أكثر قدرة على التعبير بالكلمات، لو لم تكن مفهومة جيداً الا أنها تفي بفهم ما يعبرون عنه. في الشهر السادس يتعرف الاطفال على السبب والمسبب من خلال اللعب.
وحتى الشهر الثامن عشر، يصبح الاطفال أكثر قدرة على إبتكار الالعاب، وعلى فهم معنى الملكية، وتقليد الآخرين، فهم الآن يفضلون لعبة الهاتف، ويديرونها كالكبار، فلعبة الهاتف ليست لعبة بالنسبة لهم بل هي فعل حقيقي وواقعي له دوره، كما وبإمكان الاطفال تحديد الاشياء وربطها بما يناسبها، كالشاحنة وعلاقتها بالرمال والحيوانات مثلاً. فما تعلموه لم يعد تقليداً بل هو شيء واقعي لا بد من ربطه بما في الحياة.
وحتى العام الثالث من العمر يصبح اللعب نشاطاً ذهنياً أكثر تطوراً، بفضل ما أدخله هؤلاء الاطفال من فكاهة وإبداع، فاللعبة لم تعد إنجازاًجامداً فحسب، بل أصبحت شيئاً مسلياً للأطفال والمحيطين بهم. فهم قادمون الآن على تأليف مسرحيات وتقمص الادوار وتمثيلها بأسلوب فكاهي وفق رؤية ذهنية خاصة بهم. فتوفير كتب مصورة تفي بالحاجة من أجل قيام الاطفال بهكذا مسرحيات تساعدهم على تقليد ما في هذه الكتب من مشاهد. فتقليد مشهد شم الوردة الظاهرة في الكتاب، وقد يكون مملاً بالنسبة لهم بعض الشي، ولكن تجربة هذا المشهد مرة تلو المرة سوف يجد فيه هؤلاء الاطفال شيء من التسلية التي هي بالنهاية لعبة من الالعاب. في العام الاول يتعرف الاطفال على آلية اكتشاف المحيط فيحركون الاشياء ويقلبونها متأملين الوانها وأشكالها. إن تراكم الاشياء وتعلمها في الواقع، ما هي الا تحصيل يغني قاموسهم الذهني، ويحول ذاكرتهم الى حافظة تختزن المعلومات التي ستخدمهم لاحقاً على مقاعد الدراسة.
فتكرار اللعبة، شرط شرح التفاصيل حولها إنما يراد من خلاله ترويض ملكتهم السمعية، وتطوير عملية النطق لديهم. فهم في الثالثة من العمر يحفظون قصصاً تتألف من30 كلمة وهذا جيد يؤهلهم وبكل سهولة الى اكتساب المزيد، فهم يعبرون عن أعضائهم بالأشارة اليها، اذا ما طلب منهم ذلك، ويذكرون أوجه التشابه فيما بينها من حيث الآداء الوظيفي. حاولن حث اطفالكم على تقليد الاشياء مع شرح مسهب حولها وعرضها عليهم في الطبيعة، ففي ذلك تحريك لقدراتهم الذهنية حول اكتساب مزيد من المعرفة، وتدعيم حواسهم البصرية من خلال رؤية الوردة ومعرفة ألوانها، وصفاتها الشمية من خلال إدراك رائحتها. حتى الخربشة على الورق هي لعب بالنسبة لهم، مع أنها بالحقيقة مادة تعليمية يراد منها حث الاطفال على التعبير عن أفكارهم، فهم يعبثون بالألوان ويترقبون النتائج دون إدراك منهم أن ما وصولوا اليه هو تأليف لوحة فنية تدلهم على تعلم ماهية الالوان وكيفية خلقها، فبهذه الطريقة نجدهم يخوضون تجربة حركية، عبر تشغيل اليد والحواس، أكثر منها ممارسة لعبة كما يظنون. وحتى بداية الرابع من العمر، يهوي هؤلاء الاطفال لعبة الرصد والمراقبة وتصنيف الاشياء والملء والافراغ، فالملل لا يعرف طريقاً اليهم، فهم يواظبون على التكرار والاستكشاف وتصحيح الفشل، بإيجابية واندفاع أقوى، في إطار اجتماعي أشمل، برهنته شراكتهم في اللعبة مع أطفال آخرين. فهم قادرون على تشكيل فريق لكرة القدم، يتقازفون الكرة، يصممون على الفوز، اذ لا وجود للأحباط في حياتهم. حتى الخامسة من العمر، تتطور ذاكرة الاطفال ويصبح بمقدورهم إعداد السيناريوهات الكلامية، وتوزيع الادوار بشكل أدق، وهم بذلك وبشكل غير إرادي، يجدون أنفسهم مندمجين مع أشخاص آخرين ضمن نسيج إجتماعي جديد، عليهم إحترامه على أساس توزيع الادوار فيما بينهم، وهم يحبون لعبة التخفي، ولعبة السوبرمان، ويصبحون أكثر ميلاً الى أكتشاف حقيقة الاشباح، فيكثرون من طرح الاسئلة حولها. وأكثر ما يثير متعتهم في هذه السن، عكس الادوار، فلعل الغاية من ذلك إثارة ضحكات المحيطين، كلبس ثياب الفتيات من قبل الذكور، أنتعال أحذية الآباء من قبل الفتيات، أو تمثيل دور الاجداد والجدات عبر تقليد حركاتهم وأصواتهم. وقد يعبر هؤلاء الاطفال عن ذلك على الورق، من خلال رسم أسماك تطير في السماء، أو تصوير ثعلب يحمل بندقية صيد إن هذا الشيء يثير الضحكات حقاً، وهو مستحب أحياناً ولكن يجب إنشاء شراكة ثقافية مع هؤلاء الاطفال دون الاكتفاء باللعب على أساس أنه لعب، عبر الالتزام بشروحات حول هذا الاشياء وتحديد أدوارها بالشكل الصحيح، فالأسماك لا تطير بل تسبح والثعالب لا تصطاد بالبندقية وهذا ما يجب فهمه من قبلهم.
عندما يبلغ الاطفال عامهم الرابع تقوى لديهم العزيمة والاندفاع نحو لعبة معينة يراد من ورائها تسجيل انتصارات على الآخرين. كم ستعجبهم لعبة تكرار شم الوردة أمامهم، إنها تسلية ممتعة ومصدر معرفي اذا ما تم إرفاقها بشروحات حول طيبعتها، فهم في سن الخامسة أصبحوا مدركون أن الوردة شيء جميل، ما يدفع فضولهم الى رسمها على الورق، بأعتبارها شيء أصبح متعارف عليه عندهم، فإن تطور قدراتهم الذهنية والادراكية أصبحت تخولهم رسم الوردة وباقي الاشياء بتفاصيل أدق وتحديد ادوارها، فهم يرسمون للسيارة دواليب والعصفور يطير وصبي يصطاد بالنهر. وأصبحوا قادرين على استخدام الادوات بفعالية أعلى، وتقطيع الاوراق الى أشكال، فهم يحددون الالوان ويحسنون الإمساك بالقلم. ويركبون الدراجة بتوازن أدق، يقبضون على الكرة بإحكام كما ينمو لديهم خوض ألعاب تحتاج الى تركيز ذهني وتنمي إنخراطهم الاجتماعي، فلعبة الداما مثلاً لا يستطيع الطفل أداءها بمفرده، بل يحتاج الى منافس يقابله، كما وتساورهم لعبة البزل، وتأليف المجسمات، فكلا اللعبتين يحتاج الى تركيز ذهني. فمقابل كل تطور في قدراتهم الذهنية، يقابله تحسين على صعيد السلوك الى أن يصبح هذا السلوك جزء من شخصيتهم. ان اللعب بالنسبة للأطفال اكتشاف هام قد يحدد الطفل من خلاله مستقبله كأن يصبح طبيباً بعد أن يخوض لعبة الطبيب مع الآخرين.
من هنا يستشف أن اللعب يجب أن ينفي كل مأساوية وقلق، أنه عملية تفريغ وكبح للقلق والخوف، ليشكل اللعب بالنهاية أسس السلوك بذاته. فاللعب يسمح لهؤلاء الاطفال اكتشاف كل ماهو غامض، عبر ابتكارات لم يحسب لنتائجها حساباً. وتتحول الى مواد علمية، ومسلية في آن واحد بالتجربة والمتعة والفكاهة والفضول في التعرف والاستكشاف فاللعب سوف يشعرهم بالسعادة بعد كل إنجاز، فالتجربة والمتعة والفعل والتعلم، سوف تقدم لهم كماً من المعلومات تتعلق بمحيطهم ومحيط مدرستهم. فلن يلجؤوا بعد اليوم الى من يقدم لهم المعلومة، فقد ادركوا طريقها عبر لعبة يمارسونها يومياً يستنبطون منها كل ماهو مفيد، وهكذا يكون اللعب ذو حدين الاول بهدف اللعب والتسلية والثاني بهدف الابتكار والاكتشاف والتعلم. فاللعبة الجيدة تقدم للطفل السعادة والمتعة، وتدفعه الى تطوير آدائه الحركي وتحثه على الاستكشاف والتخيل والبناء.


المصدر: كتاب اللعب عند الاطفال.
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 1)

عودة
أعلى