الدعاء في السجود

الحنان كله

عضو لامع


630048553df9b6e454e294f40caf5873.jpg


السؤال:
لماذا كان الدعاء في السجود أرجى من غيره، وما الحكمة فيه؟

الإجابة:
واقع الأمر أن وضع السجود هو أكثر أوضاع الصلاة خضوعًا لله عزَّ وجلَّ، وأكثر المواطن ذلًّا له سبحانه وتعالى؛ ففيه تخضع الجبهة التي يعتزُّ بها الإنسان، ويسجد الأنف الذي يشمخ به الناس.. إنه المقام الذي لا يَقْبَل أحدٌ سَوِيُّ الفطرة أن يفعله إلَّا لله عزَّ وجلَّ؛ ومن هنا كان هذا أعظم إعلان للعبودية لربِّ العالمين، وإذا أدرك العبد طبيعة هذه العلاقة فإن إجابة دعائه تكون قريبة؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، فالله قريبٌ من «عباده»، أما الذي لا يُدرك كُنْه هذه العلاقة فكيف يقترب من الله؟!

غير أن هناك حكمة أخرى جميلة ودقيقة أراها من وراء جعل السجود هو موطن الإجابة الأقرب في الصلاة.. وهي أن السجود هو آخر عمل في الركعة، فكأنَّ كلَّ الركعة في تكبيرها وفاتحتها وقرآنها وركوعها وحمدها، ما هي إلَّا مقدِّمة مجَّدْتَ فيها الله وعظَّمْتَه حتى وَصَلْتَ في نهايتها إلى السجود الذي تطلب فيه من الله بغيتك.. وإذا رجعنا إلى المثال الذي ضربناه قبل ذلك، وفيه نطلب قرضًا من صاحب فضلٍ وقعنا في حقِّه، تُصبح الركعة كلها هنا كالمحاولات التي نبذلها للاعتذار عن خطئنا، ولتقديم التبجيل والتعظيم، وإظهار الانكسار والضعف، لنصل في النهاية إلى الموضع الذي نطلب فيه على استحياء ما نُريده من صاحب الفضل.

ومن هنا جاء حثُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا على كثرة الدعاء في السجود، وعلى الاجتهاد فيه؛ فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «.. فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ [1] أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» [2].

فنحن لا ندعو في الركوع؛ حيث إننا لم نستكمل بعْدُ المقدمات التي تكفل لنا الإجابة، أمَّا إذا قُمْنَا في الركوع وغيرِه من أركان الركعة بتعظيم الله وتمجيده والاعتذار له، فإن إجابة الدعاء في السجود تكون أقرب، ومن المفيد أن تعرف أن هذه الوصية كانت في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه [3]؛ مما يدلُّ على أهمِّيتها القصوى، وحِرْصِ الرسول صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لنا حتى مع شدَّة ألمه وتعبه.

ولعلَّ هذا هو السبب كذلك في مشروعية الدعاء بعد التشهُّد الأخير في الصلاة؛ فمن السُّنَّة النبوية أن ندعو في موضعين رئيسين في الصلاة: السجود، وبعد التشهُّد قبل التسليم [4].

فكما أن السجود هو آخر أعمال الركعة، وجدير أن يُستجاب لنا كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن التشهُّد هو آخر أعمال الصلاة كلها، وقد عظَّمْنا اللهَ كثيرًا في كل أركانها، فحان وقت الطلب من الله سبحانه وتعالى؛ لذلك وردت في السُّنَّة النبوية أدعية كثيرة للغاية يقولها المُصَلِّي بعد التشهد وقبل أن يُسَلِّم، وسنعرض لها بإذن الله في ثنايا الكتاب عند حديثنا عن التشهُّد والتدبُّر فيه.

وكذلك يمكن أن نفهم لماذا جعل الله عزَّ وجلَّ القنوت في صلاة الوتر[5] .. فبعد أن صَلَّيْتَ كثيرًا من الليل، وعظَّمت الله عزَّ وجلَّ طويلًا في هذه الركعات جاء وقت الطلب والمناشدة.. وتأمَّل صورةً من الطلب الذي تُقَدِّمه إلى الله عزَّ وجلَّ كما رواها لنا الحسن بن عليٍّ ب فقال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهنَّ في قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ». فهنا بعد صلاة الليل كلها، أو حتى بعد صلاة اليوم كله، نختم عبادة اليوم الطويل بدعاء طويل! نطلب الهداية والمعافاة والموالاة والبركة، ولم يكن ذلك إلَّا بعد تمجيد الله في كل الصلوات السابقة.

[1] قمن: حقيق وحريٌّ وجدير. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 2/300، والنووي: المنهاج، 4/198.
[2] مسلم: كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، (479)، وأبو داود (876)، والنسائي (218)، وأحمد (1900).
[3] قال ابْن عَبَّاسٍ ب، في بداية روايته: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ... الحديث السابق، وهذا كان في الأيام الأخيرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس.
[4] لقوله صلى الله عليه وسلم بعد التشهد: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو». البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، (800)، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «ثم يَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ». مسلم: كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، (402).
[5] القنوت هو اسم للدعاء في الصلاة في محلٍّ مخصوص من القيام، والوتر صلاة مخصوصة بعد فريضة العشاء، وسُمِّيَتْ بذلك لأن عدد ركعاتها وتر (أي فردية)، وهي آخر الصلاة بالليل. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 27/289- 299، 34/57، 68، والزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 1/809-828، وعبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة 1/305-308.

د.راغب السرجاني

 
رد: الدعاء في السجود

طرح طيب
بارك الله فيك اختنا الحنان كله
بموازين حسناتك ان شاء الله
تقديري لك
 
الدعاء في السجود

جزاك الله خيراً 🌹
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى