الكرسي المتحرك

وجدت نفسي في عالم تحكمه قوانين الإعاقة وأنا لا أزال أفكر بعقلية الشخص السليم الجسد القادر على الحركة والمشي كنت أستطيع وأنا أرقد في سيارة الإسعاف التي نقلتنا من مطار هيثرو ـ وهي تشق طريقها في مكان ما خارج مدينة لندن ـ رؤية أغصان الأشجار والأجزاء العلوية من المباني. فالأشياء والوجوه التي ترتفع بطول قامة الإنسان، على الأقل، هي التي ـ فقط ـ يمكنني رؤيتها..هذا ما كان عليه حالي منذ وقوع الحادثة قبل شهرين ونصف تقريباً! لا أرى شيئا سوى الأسقف والمعلقات في أجزاء الجدران العلوية.



والآن، بعد سنوات عدة من ذلك التاريخ، لا أزال أتذكر كثيرا من ألوان وأشكال بلاط الأسقف والمصابيح الكهربائية ولوحات الزينة المعلقة التي شاهدتها في غرف وردهات المستشفيات أو تلك التي أمضيت أياما وشهورا أحدق فيها كوسيلة لقتل الوقت وتجاهل الألم.. وهما من العادات التي أتقنتها تماما خلال المراحل الأولى للمرض والتي ساعدتني لاحقا في التغلب على الآلام المستديمة التي تترتب على بعض حالات إصابات النخاع الشوكي (آلام جذور الأعصاب) ـ وحالتي واحدة منها.

على بوابة مستشفي "بادوك" استقبلتنا مديرة المستشفي وسارعت مجموعة من الممرضات إلى نقلي فورا إلى الغرفة.

وخلال نقلي عبر ممرات المبنى تهاوت إلى مسمعي أصوات عربية كثيرة وبلهجات مختلفة تسأل عن القادم الجديد ومن أي بلد جاء.

بعد تحريكي من نقالة سيارة الإسعاف إلى السرير بعناية فائقة، جاءت كبيرة الممرضات للتعرف وتحديد مستوى التفاهم اللغوي معي قبل أخذ أي بيانات أو تفاصيل وأخبرتني أن الطبيب أخطر بوصولي وهو في طريقه إلى المستشفى. ثم سألتني إن كنت وعبد الله نرغب في شاي أو قهوة أو بعض "الساندويتشات" إلى أن يحين موعد الغداء، فطلبت كوبين من الشاي.

ونظرا للازدحام الذي كان يشهده المستشفى في ذلك الوقت أنزلت "ولحسن حظي" في غرفة انتظار صغيرة حجزت بستارة عن الممر وتطل مباشرة عبر نافذتها الكبيرة على حديقة المستشفى، فكنت أشاهد وأنا في سريري الأشجار وأتابع حركة المارة خارج المبنى.

بعد فترة وجيزة وصل الطبيب "والش" ـ عجوز في السبعينيات من عمره ـ الذي عرفت لاحقا أنه مرجع في حقله وله مؤلفات عديدة تتعلق بمعالجة إصابات النخاع الشوكي والأعصاب وتأهيل المعوقين، وسبق له شغل رئاسة المركز الوطني لإصابات النخاع الشوكي بمستشفى ستوك ماندفيل الذي يعتبر أول مركز من نوعه في العالم. فقد تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية بتمويل من الجيش البريطاني لعلاج حالات إصابات العمود الفقري بين جنود القوات التي خاضت الحرب ودراسة المضاعفات المصاحبة لمثل هذا النوع من الإصابات المعقدة في سبيل تطوير طرائق أفضل لعلاجها.

وبعد أن اطلع على التقرير الذي أحضرته معي أمر بقص الجبيرة. وأخيرا جاء الفرج! فقد تحررت من الكماشة التي كانت تمسك بخناقي لأكثر من شهرين.

شعرت بعد قص الجبيرة بحاجة إلى حمام ساخن يزيل الرواسب التي تراكمت فوق جسدي طوال تلك الفترة. فكان لي ما شئت، حيث تعاونت ممرضتان على تنظيفي بالماء الساخن والصابون والمطهرات.. غلب علي بعدها شعور بالانتعاش والراحة وأغمضت عيني ولم استيقظ إلا في الساعة السابعة مساء عندما أحضر العشاء.

أما عبد الله فقد أخبرني في وقت لاحق من ذلك المساء أن أحد موظفي العلاقات العامة في المستشفى اصطحبه إلى فندق قريب حيث نزل هناك وأمضى بقية ساعات النهار نائما.

استقبلت نهار اليوم التالي على رطانة إرلندية وصوت فتح نافذة كبيرة تطل على حديقة ريف إنجليزي. وشعرت بنسمة باردة شممت فيها رائحة هواء رطب وأعاد المنظر الخلاب لغابة الأشجار وأوراقها الصفراء ذاكرتي إلى أيام مضت لا تكف تشد روحي إليها إذا شاءت الظروف. فقد كنت أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية أقضي بعض الأوقات الممتعة في حديقة طبيعية بجانب سكني، خاصة خلال الخريف. ولكن سرعان ما أفقت من حلم اليقظة لأنفلت من عالم الذكريات الجميلة وأعود لحاضري الأليم: الشلل والعجز عن المشي.

وبعد الظهر جاء الطبيب والش لإجراء فحص شامل لتحديد مستوى الضرر الذي أصاب النخاع الشوكي في الفقرات العنقية حيث أخذ يوخز جسمي ابتداء من العنق نزولاً إلى الصدر والذراعين والجانبين بأداة حادة وطلب مني إخطاره عندما أشعر بالألم. وإلى جانبه كانت تقف ممرضة تحمل في يدها مخططا لجسم الإنسان تضع عليه نقاطاً في الأماكن التي لا أستجيب فيها للوخز، ثم قام بعد ذلك بفحص مفاصل الركبتين والقدمين وذلك بالطرق عليها بمطرقة خشبية لجس رد الفعل اللاإرادي لعضلات هذه الأجزاء من الجسم.

أمضيت الأسابيع الخمسة الأولى في معاناة مستديمة من صداع حاد كان يصيبني خلال فترات تتراوح ما بين نصف ساعة وساعة واحدة وذلك بسبب خضوع واحدة من وظائف الجسم الحيوية لبرنامج علاج يتطلب إدخال قسطرة في مجرى البول لتفريغ المثانة كل ثلاث ساعات ـ وهو ما يعرف كما قيل لي بـ "تأهيل المثانة".

وعرفت أيضا أني سوف أعاني خلال هذه الفترة من آلام شديدة في الرأس.. وهي من الأعراض الشائعة في المراحل الأولى من الإصابة، ولعلها تعد إشارات أولية على ظهور بعض المضاعفات التي تتطلب علاجا طبيا ومراقبة متواصلة.

قرر الطبيب، بعد ستة أسابيع أن الوقت حان لجلوسي على الكرسي، وهو أمر يعد له برنامج محدد يزداد فيه زمن الجلوس تدريجيا نظرا لطول الفترة التي يمضيها المصاب بمثل حالتي في السرير.

وفي صباح يوم الاثنين جاءت أخصائية العلاج الطبيعي مبكراً لإعدادي للجلوس على الكرسي وعرفت منها أنني سأصاب بإعياء وربما بغيبوبة عندما أجلس على الكرسي بسبب تدفق الدم من الرأس والجزء العلوي من الجسم بسرعة نحو الأسفل، ولكن تلك الأعراض ستزول شيئاً فشيئاً بزيادة زمن الجلوس وتكرار مراته.

كان الجلوس على الكرسي المتحرك احد اصعب المواقف التي اعترضتني في بداية فترة التأهل، فقد وجدت نفسي في عالم تحكمه قوانين الإعاقة وأنا لا أزال أفكر بعقلية الشخص السليم الجسد القادر على الحركة والمشي.
 
رد: الكرسي المتحرك

قصة رررررروعة

دخلت جو مع القصة

يعطيك العافية
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى