المكفوفون يقرأون ما يكتبونه

أنس عبد القادر: المكفوفين لا يرون العالم أسود

451p.jpg


أنا ابن الشمس الذي أحب العمى بذكاء.
رفضت كل الأسوار، والقيود، وتوجيهات الآخرين، فكانت الكارثة حين كف البصر، وانقلبت الموازين.

خُفت على عينيّ من أن يخرقها العميان، وهم يتحسسون الطريق، فأخفيت وجهي في المكتب.
لا أزال أستمتع بالطبيعة التي أحببتها، وأراها أكثر من أي إنسان آخر.
أتمنى أن يفتح الناس بعض الأبواب المغلقة أمامنا دائما، وألا يقولوا "كل ذي إعاقة جبار"

الأهل يقوون الإتجاه الديني لدى الكفيف، كأن ليس له الحق في أي شيء آخر في الحياة.

الأحلام الكاذبة كفيلة دائما بالقضاء علينا، فكثيرا ما تُصور لنا في قلب الصحراء نهرا من سراب، أما الرؤية باللمس فهي الواقع نفسه، الذي مكَّن الفنان التشكيلي المصري، أنس عبد القادر، من نحت الدنيا في تماثيل تعوِّضه عن فقد بصره في شبابه، وتؤكد له أن الله اختاره لرسالة أكبر هي أن يرى المكفوفون العالم على يديه، كما روى لنا، قائلا: "تحول لعب طفولتي بالطين إلى عرائس صغيرة ينبهر بها الأولاد، مما دفعني إلى عمل عرائس أكبر حجما، وكلما زاد حجمها استفزت أهل بلدتي، الذين لم يحبوا ذلك. لكنهم استفادوا من موهبتي، وجعلوني أرسم صورا للكعبة، والباخرة، والطائرة، لتكن هذه هي تذكرتي لإبهار الفلاحين، الذين راحوا يطلبونني لأرسمهم على بيوتهم في ملابس الحج. وذاع الأمر، وتوافد ناس من قرى أخرى لرؤية أعمالي، التي لم أكتشف أنها فن إلا على يد ناظر مدرستي الثانوية، حين انتقلنا إلى القاهرة.

لتبدأ معركتي الحقيقية برغبتي في دخول كلية الفنون الجميلة، وإصرار أبي على إبعادي عن ذلك المجال، فأدخلني المعهد العالي لشؤون القطن في الإسكندرية! وعلى الرغم من أن القطن كان مشروعا قوميا في تلك الفترة، إلا أنه عجز عن أن ينسيني مشروعي الفني الخاص، فرسبت في المعهد، وتمكنت من دخول كلية الفنون الجميلة، لأعيش داخلها حلمي الحقيقي الذي رفضته العائلة، وبدوري رفضت كل الأسوار، والقيود، وتوجيهات الآخرين، وكانت هذه هي الكارثة حين كُف البصر، وانقلبت الموازين.

"بعد تخرجي وأثناء انجاز منحوتة على هيئة سمكة شعرت بالإرهاق، فنمت، واستيقظت بعدها، متخيلا أن الوقت لايزال ليلا. فتحت الباب، وشعرت بسخونة تواجهني، سخونة لم أكن أعرف أنها أشعة الشمس، إلا عندما صرخ الناس من منظر الدماء الذي يغطي بدلتي البيضاء، لتبدأ محطة أخرى في مشواري أنا المبصر الذي نام، فاستيقظ كفيفا بعد أن نزفت شبكية العين بالكامل، ودُمرت دون أن أشعر.

تلك الفترة لا أحب تذكرها، فهي الفترة المريرة التي لا يمكن أن تترجمها الكلمات. لم أستطع خلالها التحدث مع أحد، لم أرد أن أبكي، شعرت أنه الموت فحسب، ربما لا أكون ميتا الآن، لكنني سأموت غدا أو بعد غد، لكنني لم أشعر أبدا أن هذه حياة، فلم تراودني أحلام في تلك الفترة، وكيف أحلم وبماذا أحلم؟ أنا الذي لا أملك شيئا لأحلم به، لا أملك حتى أن أطعم نفسي أو أتحرك بين غرف البيت. وعبّرت عن تلك الفترة الصعبة، فيما بعد، بتمثال الفتاة المعاقة المنطوية على نفسها، والقابضة على يدها، مما يرمز إلى أنها لا تريد لأحد أن يخترقها، وعنيت بصدرها الصغير أنها لا تعرف هويتها.

الحل الوحيد وقتها أنني فكرت بجدية في إنهاء حياتي، لكنني فوجئت بأنني أريد أن أعيش. وكان السؤال كيف أعيش وأنا لا أتقن شيئا سوى الفن؟ فوجدت الحل في ذهابي إلى "مركز رعاية وتوجيه المكفوفين"، وكان الخوف هو أول ما شعرت به هناك من عالم العميان الذي أدخله لأول مرة، فكنت خائفا على عينيّ من أن يخرقوها بأصابعهم وهم يتحسسون الطريق، فأخفيت وجهي في المكتب عندما شعرت بقدوم أحدهم، لأنني لم أكن أعرف أنهم يسيرون وفق طرق محددة.

مما يُشاع عنهم أيضا أنهم يرَون العالم أسود. وبدأت أتساءل حينما فقدت بصري ألست أعمى! إذن لماذا لا أرى الدنيا سوداء؟! وحين سألت المكفوفين عن طبيعة اللون الأسود الذي يرونه قالوا إنه لون ملابس الحداد، وأن الأبيض لون ملابس الإحرام، فأدركت ساعتها أنهم لا يعرفون لا الأبيض ولا الأسود، وأنها معلومات تلقينية، والحقيقة أنهم لا يرَون شيئا، لأن أعينهم صارت مثل أيديهم لا يمكن أن نسألها ماذا ترى، ولو اعترفنا بأنهم يرون اللون الأسود، فهذا معناه أنهم يرون!

بدأ وجودي في المركز، عام 1983، بخوف من التعامل مع المكفوفين، وكانوا، أيضا، مرتابين من الحديث معي، لأنني آت من عالم المبصرين. وعرفت فيما بعد أن هذه هي طبيعة المكفوفين الذين يغيرون الكلام إذا ما اقترب شخص غريب أو مبصر، لأننا نشعر بأن بيننا أسرارا وأشياء خاصة كثيرة، فنكون رحماء على بعضنا البعض، فنستمتع بأشياء لا يستمتع بها المبصرون.

تقربت منهم عن طريق الفن، وبالطين وأوراق البسكوت والشيكولاتة صممت لهم أشكالا من الحياة، أُبرز فيها تفاصيل الجسد من بطن وثدي، ليلمسوها، ويعرفوا ما يجهلون، فشاب في السابعة والعشرين من عمره كيف له أن يعرف تركيبة جسد الجنس الآخر؟! هل سيذهب إلى أمه أو أخته، ويتحسس جسدهما ليعرف؟! أبسط الأشياء لا يعرفونها سوى كلمات بلا مدلول كالشمس، والسماء، وحتى السقف الذي بالطبع لن يقفوا فوق كرسي للمسه ومعرفة طبيعته.

"فشعرت أن الله أعماني لأخدم هؤلاء المكفوفين، فأحببت العمى بذكاء، وصممت لهم مصغرات لأشياء كثيرة من الحياة مكنتهم من تجاوز التلقين إلى المعرفة باستخدام اللمس، وهي الحاسة الأصدق من رؤية العين التي تقوم بخداع بصري، فتكمل الأشياء الناقصة أو تعطي لها أبعادا غير حقيقية.

أرتقى نشاطنا في المركز بعد ذلك إلى أعمال فنية ناضجة، نعتمد في تصميمها على المخلفات من جلود، وزجاج، وأوراق، فأجد الأولاد يحرصون بأنفسهم على جمع هذه المخلفات لنستثمرها معا، وألطف ما في ذلك أطفال الحضانة المكفوفون، الذين يرفضون إلقاء ورق البسكويت، ويحضرونه لي لنصنع منه عرائس.

دفعني ذلك لأخبر الأولاد: "لو اهتميتوا بفكركم، هتخلوا المخلفات دي أعمال فنية، يهلّل لها الناس، أنت قادر على تغيير الدنيا، وتصميم أعمال تضعها الدولة في أرفع الأماكن، اختار ده أو أنك تفضل قاعد جنب الحيط يشيلوك من مكانك لما الشمس تيجي عليك"، وطلبت منهم أن يرددوا: "أنا ابن الشمس، ابن الفراعنة العظام"، فأنا أهتم، دائما، برفع معنوياتهم لأن ما تفعله الأسر هو تقوية الوازع الديني فحسب، كأن ليس لهم الحق في أي شيء آخر في الحياة، لأنهم مكفوفون!

عن قرب رأيت المكفوفين متصالحين مع أنفسهم، ولديهم طموح كبير، لكن المسألة أن الحياة تمثل تحديا كبيرا لهم، في ظل مجتمع لا يدرك طاقاتهم الكبيرة، فأحاول أن أجعل من الأولاد شخصيات قوية، وأنصحهم بألا يعلنوا عن آلامهم بصوت مرتفع، وإذا ارتطموا بشيء عليهم أن يكونوا متوازنين، ويحتفظوا بآلامهم داخلهم، حتى لو كان ما ارتطموا به كلمات قبيحة من الآخرين.

"أكثر مكفوف أتألم لأجله هو المكفوف صاحب إعاقة أخرى، أو المكفوفون المتخلفون، الذين أحاول مساعدتهم قدر الإمكان، فأنزل بهم إلى حمام السباحة وهو فارغ، وأطلب من العمال أن يفتحوا المياه علينا على مهل، كما أعلمهم الأكل عن طريق دفعهم ليطعموني في فمي، مما يصيبني بنزلات معوية أسبوعية، لا ألتفت لها أمام اقبالهم على الطعام وفرحتهم. لا أنسى طفلا كفيفا كان مصابا بسرطان درجة ثالثة أحضرته أمه خصيصا لي، لأنه كان يريد أن يأكل معي. يكون ألمي شديدا حين يرحل أحدهم عن الحياة، ففي أحد الأيام كنت أسير حزينا وراء نعش أحدهم، فوجدت أمه - من شدة تعلق ابنها بي- تولول صارخة باسمي بدلا من اسم ابنها!

بعد كل تلك الرحلة الطويلة لا أملك إلا أن أقول إنني صرت صديقا للعمى، أمارس حياتي بشكل عادي معه، اقرأ وأعرف الساعة بطريقة برايل، وأسجل كتبا سمعية للأطفال، كما أنني لا أزال أستمتع بالطبيعة التي أحببت، دائما،أ تأملها، فصرت أراها بيدي، أتحسس الأشجار، أمسك الزهور دون أن أخنقها، ألمسها، فأراها أكثر من أي إنسان آخر، وأذكر أنني في فترة الجامعة ذهبت إلى الأقصر وأسوان 17 مرة، كنت أصادق حراس معبد الأقصر، وأطلب منهم أن يتركوني أنام فيه. فلا أشعر بالوحدة أو الخوف داخله، وعند الفجر كنت أحس بحركة، فأرى الملك والكهنة، وأتشمم رائحة البخور إلى أن كانت الحادثة التي غيرت علاقتي بتأمل العالم.

تبقى أمنية وحيدة لي، هي أن يفتح الناس بعض الأبواب المغلقة أمامنا، دائما، وأن يكف الذين يكتبون عن العميان، بجهل، عن تصور أن العميان لا يقرأون ما يكتبونه!



http://www.alarabonline.org/index.a...27\451.htm&dismode=x&ts=27/04/2009 03:57:16 م
 
رد: المكفوفون يقرأون ما يكتبونه

أهي بقلمه !؟؟
تلك الرساله و هذه المقاله و هذا النبض ؟
و هذه الكلمات التي تنطق بدون فم و لالسان

أكثر من مبدع أعظم من فنان
الأستاذ أنس

و كل إنسان
يطلقه القيد لأبعد مما يتصور
لأقصى حد

تحايا إكبار لحضرتك
رابعه الحركي

كل الإمتنان
 
رد: المكفوفون يقرأون ما يكتبونه

"فشعرت أن الله أعماني لأخدم هؤلاء المكفوفين، فأحببت العمى بذكاء، وصممت لهم مصغرات لأشياء كثيرة من الحياة مكنتهم من تجاوز التلقين إلى المعرفة باستخدام اللمس، وهي الحاسة الأصدق من رؤية العين التي تقوم بخداع بصري، فتكمل الأشياء الناقصة أو تعطي لها أبعادا غير حقيقية.


كلمات لها اثر كبيييييييييير جدا

شكرا لك رابعة

 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى