النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة

النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة




أولا التفسير التحليلي :

قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ﴾ والمراد بالظن: هو التخمين بوقوع شيء ثم يبني على ذلك الظن أشياء ليس لها حقيقة، فيسبب ذلك عداوة وبغضاء.



قوله تعالى: ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )وإنما قال بعض الظن إثم لأن الظن ينقسم إلى:ـ

1) الظن السيئ الذي لم تقم عليه قرينة ولا دليل وهو الوارد في الآية الكريمة

2) الظن السيئ الذي قامت عليه القرينة وهذا جائز، وعلى الإنسان أن لا يتوسع في الظن ويقول هذه قرينة ثم يقع في المنهي عنه والمحظور .



يقول الله تعالى: ﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾ التجسس: هو تتبع الأخبار الخفية والبناء عليها .



قوله تعالى: ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ الغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( ذكرك أخاك بما يكره)



قوله تعالى: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } هذا التشبيه فيه تنفير من الغيبة وذلك أن الله مثلها بأن يأتي الإنسان إلى أخيه الميت فيأكل منه والعياذ بالله يعني هل يحب أحدكم إذا مات أخوه أن يأكل من لحمه ؟ أبداً لا أحد يحب ذلك بل الميت محل الرحمة ، لذلك كان هذا التشبيه أبلغ ما يكون في التنفير من الغيبة .

التفسير الموضوعي

تضمنت الآية الكريمة النهي عن ثلاثة أمور وهي :

1- النهي عن سوء الظن

2- النهي عن التجسس

3- النهي عن الغيبة

أولا / النهي عن سوء الظن

يقول تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾



والمراد بالظن: التخمين بوقوع شيء ثم يبني على ذلك الظن أشياء ليس لها حقيقة، فيسبب ذلك عداوة وبغضاء.

والظن إما محظور، أو ومندوب إليه.

1- الظن المندوب إليه: فهو حسن الظن بالأخ المسلم.

2- وأما الظن المحظور: فهو سوء الظن بالله، روى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " رواه مسلم

وكذلك من الظن المحظور: سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة، وهذا هو المراد بالآية، وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".



قال أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك،فإن لم تجد له عذرا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرا لا أعلمه

.ولذلك نص العلماء على وجوب تجنب الظنون السيئة وحمل الناس على المحامل الحسنة، وطرد ما يلج للخاطر من أوهام وظنون.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا .



نذكر لذلك بعض الأمثلة:

فقد يتوهم البعض ، أو يزين له الشيطان أن فلانا يبغضه فيبني على هذا عداوة وشحناء في الصدر ، وعدم صفاء في الصدر تجاه أخيه المسلم .



والبعض يسيء الظن بزوجته بدافع الغيرة ويتشكك في زوجته ويفسر كل سلوك على أنه خيانة أو سوء أخلاق منها ، وقد يقع هذا من الزوجة أيضا تجاه زوجها .



وقد يتناقل الناس عن فلان أنه متهم في دينه ، أو أن هؤلاء القائمين على الجمعية أو الهيئة الفلانية يأكلون المال بغير حق ، فيضرون إخوانهم ويشوهون صورة المجتمع المسلم .

والحاصل أن الظن والتخمين أوقع كثيرين في العداوة والبغضاء ، ففشت بينهم الأحقاد ، وساءت المعاملات فيما بينهم، وظهر الحسد والبغضاء ، كل ذلك مبناه على أخبار وهمية ظنوها صادقة وليس لها حقيقة .

وفي قصة حاطب لما كتب إلى أهل مكة يفشي إليهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ثم اعتذر، أراد عمر أن يقتله وقال: إن الرجل قد نافق، وكان ذلك مبنيا على الظن ، ولكن قبل النبي صلى الله عليه وسلم منه عذره وحسن نيته ، ومنع عمر من البناء على ذلك الظن؛ لأنه ظن خاطئ .



وقوله ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم ﴾ ولم يقل: اجتنبوا الظن كله، لأن الظن ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ظن خير بالإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يُظن به خيراً، ويُثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله.



القسم الثاني: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء.

أما ظن السوء بمن قامت القرينة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد أن نحترس من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا نثق بهم.





ما الفرق بين الظن والشك؟

الشك وجود معرفة على وجهين متناقضين في كفتي ميزان متعادل، ويمثل علماء المنطق لذلك: إذا رأيت شخصاً من بعيد فلا تستطيع أن تجزم أكان رجلاً أو امرأة، فلم تستطع الجزم بذلك والكفتان متعادلتان .



في هذه الحالة يكون إدراكك للشخص شك لأنك لم ترجح أحد الجانبين.



ولكن إذا اقترب الشخص منك قليلاً ثم تبين لك أنه رجل، حينئذ هذا الجانب الذي رجح ونزلت كفته عشرة في المائة يعتبر ظناً، والكفة المرجوحة التي نقص الإدراك فيها عشرة في المائة يعتبر وهماً .

فالظن أحد الجانبين الذي رجح بعد أن كان شكاً متعادلاً.



فإذا انتهى الوهم، وكان العلم لجانب واحد، بأن دنا منك ورأيته بملابسه وتأكدت (99%) أنه رجل، حين ذلك يكون علماً.



والعلم مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

فعلم اليقين الذي لا يقبل وهماً يطرأ عليه،فمثلا : المسلمون في كندا أو روسيا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة، فهم يعتقدون ويعلمون بوجود الكعبة، فإذا قدر لهذا الإنسان أن جاء إلى مكة ووصل إلى المسجد الحرام ووقف عند الباب،

فعلمه بها وهو يراها بعينه هو عين اليقين .

فإذا طاف حولها زاد علماً، فإذا فتحت الكعبة ودخل وصلى في جوف الكعبة، فعلمه بالكعبة وهو في جوفها أقوى من علمه وهو واقف في الباب، فهذا هو حق اليقين.



لماذا قدم الظن على التجسس ؟

في هذه الآية الكريمة ترتيب عجيب أشار إليه القرطبي ـ رحمه الله ـ فقال:

لأن الإنسان إذا ظن السوء سينتقل إلى مرحلة أخرى وهي التجسس ليتأكد ثم بعد التجسس سوف يغتاب ذلك الرجل بذكر معايبه.

فبعضها يجر بعضا ، فانظر إلى هذا التسلسل العجيب لأن الله هو الخالق لهذا الإنسان وهو العالم كيف تتسلسل في النفس وفيه تنبيه من جانب آخر أنه يجب على الإنسان أن يغلق أبواب الشر على نفسه لأنه إذا فتح باب الظن أنفتح باب التجسس ثم إذا امتلأ القلب بهذه الأمور المنكرة أصبح يفرِّغها في المجالس التي يجلس فيها فيقع في الغيبة .



ثانيا / النهي عن التجسس

يقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ التجسس طلب المعايب من الغير، أي أن الإنسان ينظر ويتصنت ويتسمع لعله يسمع شرًّا من أخيه، أو لعله ينظر سوءاً من أخيه، والذي ينبغي على المسلم أن يعرض عن معايب الناس، وأن لا يحرص على الإطلاع عليها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يخبرني أحد عن أحد شيئاً»، يعني شيئاً مما يوجب ظن السوء به «فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»



فلا ينبغي للإنسان أن يتجسس، بل يأخذ الناس على ظاهرهم، ما لم يكن هناك قرينة تدل على خلاف ذلك الظاهر،

وهناك قراءة أخرى (ولا تحسسوا)

قيل: معناهما واحد، وقال الحافظ ابن كثير: والتجسس غالباً يطلق على الشر، ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، وقد يستعمل كل منهما في الشر.

والأرجح أن لكل واحدة منهما معنى، والفرق هو أن التجسس أن يحاول الإنسان الإطلاع على العيب بنفسه، والتحسس أن يلتمسه بجميع حواسه كما في قول يعقوب لبنيه (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه )يوسف87



وعلى هذا فتكون القراءتان مبينتين لمعنيين كلاهما مما نهى الله عنه، لما في هذا من إشغال النفس بمعايب الآخرين.



ولهذا من ابتلي بالتجسس أو بالتحسس تجده في الحقيقة قلقاً دائماً في حياته، وينشغل بعيوب الناس عن عيوبه، ولا يهتم بنفسه، والعاقل هو الذي ينظر إلى معايب نفسه ليصلحها، لا أن ينظر في معايب الغير ليشيعها - والعياذ بالله - ولهذا قال الله - عز وجل -: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم }النور19



والنبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معشرَ من آمنَ بلسانهِ ولم يدخُل الإيمان في قلبهِ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يفضحهُ الله ولو في عقرِ بيتهِ"

فالمسلم مطالب بأن يستر على أخيه المسلم لا أن يفضحهُ وأن يُشهِّر بهِ ويذكر معايبه في المجالس وينشرها بين الناس وربما يفرحُ بما يكتشفه من الأخطاء والعيوب والزلات و الهفوات التي يقع فيها المسلم، فهذا أخوك سِترك له هو سترٌ لك أنت .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم"أخرجه أبو داود



ثالثا/ النهي عن الغيبة :alt



في قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ وقد ثبت تحديدها في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال لأصحابه: أتدرون ما الغيبة؟

قالوا: الله ورسوله أعلم

قال: ذكرك أخاك بما يكره

قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته"رواه مسلم

سواء كان ذلك في خلقته، أو خلقه، أو في أحواله، أو في عقله، أو في ذكائه، أو في غير ذلك،مثل أن تقول: فلان قبيح المنظر، دميم، فيه كذا، فيه كذا، تريد معايب جسمه، أو في خُلقه بأن تقول: فلان أحمق، سريع الغضب، سيء التصرف، وما أشبه ذلك، أو في خلقته الباطنة كأن تقول: فلان بليد، فلان لا يفهم، فلان سيء الحفظ، وما أشبه هذا....

وقليل من يسلم منها، حتى كثير من الطيبين والمعروفين بالورع، بل وبعض أهل العلم، ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ معبرا عن هذا الواقع:

(وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول )انظر: الجواب الكافي ص 277..

وقال ـ سبحانه ـ: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) والغيبة من أشد الأذى على المؤمن.

ويقول ـ جل وعلا ـ مشنعا على المنافقين: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) (الأحزاب: من الآية19).

أما الأحاديث فهي كثيرة منها:

قال صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله" أخرجه مسلم

وقال في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا،في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت" .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس،يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه أبو داود .



مواضع جواز الغيبة :

ذكرَ العلماء أن هناك بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة وذلك إذا كان هناك مقصود شرعي ولا يمكن الوصول إلى هذا المقصود الشرعي إلا بهذه الطريقة.

وذكر العلماء لذلك ضابطين:

الضابط الأول أن يكونَ هذا الذي ستتكلم عنه هذا العيب ستذكره لمقصودٍ شرعيٍ معتبر.

والأمرُ الثاني أنك لا تستطيع أن تتوصل إلى هذا المقصود إلا عبرَ ذكركَ أخاكَ بما يكره

تجوز الغيبة في عدة مواضع منها :

1- غيبة الفاسق المجاهر بفسقه، وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث وإن كان في سندها ضعف.

وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة، صاحب الهوى، والفاسق المعلن، والإمام الجائر.



2- ذكر من ظلمك لمن ترجو أن ينصفك، أو لنفي التهمة عنك قال - سبحانه -: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ) النساء148

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَطلُ الغني ظلمٌ يحل عرضه وعقوبته"، يعني الإنسان إذا كان غنياً يستطيع أن يقضي دينه ثمَّ بدأ يماطلُ في هذا الدين يطلبهُ الدائن ولكنّ الغني يماطل يعني يتأخر ويتقاعس في قضاءِ هذا الدين فلهذا الإنسان أن يتكلم على هذا الغني ويقول هو ظلمني وأكل مالي ... وإلى غير ذلك.

3- في حالة الاستفتاء، يعني لو أن رجلا جاءَ أحدِ العلماء يستفتيه فيقول مثلاً ضربني فلان أو خانني فلان أو ظلمني فلان في كذا وكذا فما الحكمُ؟

ففي هذه الحالة لا تعد غيبة واستدل العلماء لهذه الحالة بأن هند رضي الله تعالى عنها وهي زوجة أبي سفيان رضي الله عنه جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يعطيني وأبنائي ما يكفيني أفآخذُ من ماله ؟ قال: " خُذي وولدك ما يكفيك بالمعروف.



4- إذا كان ما تذكره من سوء فيه مصلحة غالبة أو ضرورة، كمن يسأل عن رجل ليأتمنه على مال أو عرضه أو نحوه.

وكمن يريد تزويج إنسان أو يتزوج منه ، وقد ورد في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم، جاءته امرأة وقالت خطبني فلان وفلان - تستشيره من تتزوج منهما - فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه".

وفي رواية أخرى إنه ضرّاب للنساء، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصفتين اللتين تتعلقان بهذين الصحابيين حتى قال لها انكحي أسامة رضي الله تعالى عنه.

كذلك من هذا الباب تجريح الشهود والرواة، الشاهد إذا جاءَ القاضي وأرادَ أن يعدِّل هذا الشاهد وسألَ عنه ماذا تعرف عنه ؟ وأنت تعرفُ أنه فاسق فتقول يفعل كذا ويفعل كذا ويفعل كذا ؛ لأن شهادته سيبنى عليها حكمٌ شرعي.



ومن هذا الباب أيضاً ما يفعله علماءُ الحديث عندما يقولون هذا الراوي مثلاً كذاب وهذا متهم وهذا كذا ويذكرون بعض الصفات في بعض الرواة لأن ذكرَ هذه الأشياء يترتبُ عليها مصلحة شرعية وهي المحافظة على السنة.



ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له، وصديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه أو لا؟

الظاهر أنه يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وهذا يقع كثيراً، فكثيراً ما يؤذى الإنسان، ويجنى عليه بجحد مال أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول: فلان قال في كذا، يريد أن يخفف ما في قلبه من الألم والحسرة، أو يتكلم في ذلك مع أولاده، أو مع أهله، أو مع زوجته أو ما أشبه ذلك، هذا لا بأس به؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم.



مثال قبيح للمغتاب :

قال تعالى : { ۚأَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } هذه هي حالة المغتاب، كحالةِ إنسان جلسَ على جثةِ أخيه وبدأ يُقطع لحمها ويأكلها وهذا الأخ هو إنسان ميت، هل هناك إنسان يمكن أن يقبل مثل هذه الصورة أو يشتهي مثل هذا اللحم، هذا هو حال المسلم الذي يغتابُ أخاه المسلم.

قال العلماء وجه التشبيه أن هذا الأخ أنت تأكلُ لحمه فكذلك أنت تتحدث عنهُ فهذا الكلام الذي تقوله كأنك تأكل لحم أخيك.

الأمر الثاني هذا الإنسان هو غائبٌ ليس موجوداً في مجلسكَ لا يدري بما تقوله أنت عنه فكذلك هذا الميت لا يدرك ما يقال عنه، فكأن هذا الإنسان الغائبُ هو إنسان ميت وأنت تأكل لحمه وتتفكه به.

فكما أن الإنسان يكره هذه الصورة وهو أن يأكل لحم أخيه المسلم الميت، فكذلك يجبُ عليه أن يكره الحديث أو أن يكره عيب أخيه المسلم الغائب عنه .

فقال الله عزَّ وجل هنا: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } نعم لا يحب أحدنا أن يأكل لحم أخيه ميتا { فَكَرِهْتُمُوهُ }.

وحدث أن رجلين ذكرا ماعزاً لما اعترف ورجم فقالا: (لم يرض بستر الله عليه حتى جاء واعترف حتى رجم رجم الكلب)، فسمعها صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى مر بحمار قد انتفخ فقال: ( فلان وفلان ! قالا: نعم يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من هذه الميتة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، أتؤكل هذه الجيفة؟ -استعظما الأمر- قال: والذي نفسي بيده،للذي قلتما في أخيكم -أي: ماعز - أشد من أكلكما هذه الجيفة، والله إنه الآن ليرتع في بحبوحة الجنة ).

كما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً مع إحدى نسائه فمرت من أمامهما صفية ، فقالت: ما يعجبك منها؟ يكفيك أنها وأشارت بيدها -يعني: أنها قصيرة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته )، والتعبير هنا بماء البحر دون ماء النهر لأن ماء النهر عذب، وأقل شيء يؤثر فيه، وماء البحر مالح لا يتأثر إلا بشيء غلب عليه، وكما يقولون: الماء المخلوط بالملح أو السكر يمنع أن يتشرب ما يدخل عليه من بكتيريا وغيره، فمثل بالبحر لبعد تأثره بما يقع فيه: ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) فكيف بأكبر من ذلك؟!



قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } يأمر الله سبحانه وتعالى بتقواه لأنها الحائل بين المسلم وبين اقتحام محارم الله عز وجل فتجعل بينك وبينها وقاية يمنعك من دخولها، هذا الحاجز هو خشية الله عز وجل ومراقبته .
ولا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل .

وهل يستحل المغتاب ؟

في المسألة ثلاثة أقوال :

1- بعض العلماء يرى أنها مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه، عن الحسن، قال: "كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته".



2- وبعضهم يرى أنها مظلمة وعليه الاستحلال منها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال؛ فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم" الحديث. رواه البخاري

ولكن استثنى العلماء ما إذا خشي حدوث مفسدة من إخباره بأنه اغتابه، أو مات قبل تحلله، فإنه يدعو له ويذكره بخير، ويستغفر له، ويكون كفارة له .



3- وهو القول الوسط، ولعله الصواب: إن كان صاحبك الذي اغتبته قد علم بذلك فلابد من أن تذهب إليه وتستحله، لأنه لن يزول ما في قلبه حتى تستحله، أما إذا لم يعلم فيكفي أن تستغفر له، وأن تثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والله غفور رحيم.

وينبغي لمن جاء إليه أخوه يعتذر منه أن يسامحه، ولا ينبغي أن يناقش ويرى ما الذي حصل، لأنه ربما يذكر شيئاً كبيراً فتعجز نفس صاحبه عن أن يحلله، لأن النفس أمارة بالسوء، فالأولى أن لا يسأل، وأن يحتسب الأجر عند الله، ويقول: هذا جاء معتذراً، ومن عفا فأجره على الله، ويرجى في المستقبل أن تعود هذه الغيبة ثناء حسناً، وهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله –

ما حكم غيبة غير المسلم ؟

غير المسلم على نوعين :

1. محارب للإسلام: وهذا لا حرمة له فيجوز ذكر نقائصه للتحذير منه وإضعاف هيبته.

بدليل قول الله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا) يقال : نال منه إذا أصابه برزء ويدخل فيه كل ما يصيبهم وينقص من قوتهم وعزيمتهم ويزيد من قوة المسلمين عليهم حساً ومعنى ويدخل في ذلك ذكر نقائصهم وعيوبهم لعموم اللفظ (وهذا مايسمى الآن بالحرب الإعلامية ).

وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان يوم قريظة : " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك"

ومعنى ( اهجهم ) فعل أمر من هجا يهجو وهو الذم ومعنى (هاجهم ) من المهاجاة أي جازهم بهجوهم .

2. المعاهد بعقد ذمة أو أمان (تأشيرة الدخول ):كالذي يدخل إلى بلاد المسلمين بعقد وقانون يحفظ له حقوقه.

أو الذين يعيش المسلم بينهم في بلادهم بعقد عمل أو دراسة أو علاج ونحو ذلك.

وأحكام غيبة هذا النوع كأحكام غيبة المسلم لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا ،وعليه ما علينا ، وإن كان المسلم أشد حرمة من غيره.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" أبو داود وقال العراقي إسناده جيد

وعلى هذا :

فإن كانت غيبته بذكر عيوبه الخلقية والجبلية كطوله وقصره وضعفه وسِمَنه وطريقته في الحديث فإن ذلك يحرم أو يكره على أقل تقدير لما فيه من الاستهزاء بخلق الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى وليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش البذيء.



وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الغيبة " ذكرك أخاك بما يكره " فذكر الأخ هنا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فلا يقتصرالحكم على المسلمين فقط على الصحيح .

بهتان غير المسلم والكذب عليه:

وإذا حرمت غيبة غير المسلم الغير محارب فبهتانه والكذب عليه محرم من باب أولى.







مواقف من حفظ السلف لألسنتهم وسلامة قلوبهم للمسلمين

اغتاب رجل رجلا بسوءٍ أمام صاحبه فقال للمغتاب: أغزوت الترك؟ قال: لا، قال: أغزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك!

أسد علي وفي الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصافر

وروى الربيع بن صبيح أن رجلاً قال للحسن : يا أبا سعيد إني أرى أقواماً يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك ،
فقال : يا ابن أخي : لا يكبرن هذا عليك ، أخبرك بما هو أعجب ، قال : وما ذاك يا عم ؟ قال : أطعت نفسي في جوار الرحمن وملوك الجنان والنجاة من النيران ، ومرافقة الأنبياء ولم أطع نفسي في السمعة من الناس ،
إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم فإذا لم يسلم من خلقهم فالمخلوق أجدر ألا يسلم .

وقال جبير بن عبد الله : شهدت وهب ابن منبه وجاءه رجل فقال : إن فلاناً يقع منك ، فقال وهب : أما وجد الشيطان أحداً يستخف به غيرك ؟

وعن حاتم الأصم قال : لو أن صاحب خير جلس إليك لكنت تتحرز منه ، وكلامك يُعرض على الله فلا تتحرز منه .

واغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له : اذكر القطن إذا وُضع على عينيك . أى عند الكفن والموت

وقال رجل لعمرو بن عبيد : إن الأسواري مازال يذكُرك في قصصه بشرٍ

فقال له عمرو : يا هذا ، ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ، ولكن أعلمه أن الموت يعُمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا ، والله – تعالى – يحكم بيننا وهو خير الحاكمين

وقال عمر بن عبد العزيز : من علم أن كلامه من عَمَلِهِ ، قل كلامه إلا فيما يعنيه .

وقال رجل للفضيل ابن عياض : إن فلاناً يغتابني ، قال : قد جلب لك الخير جلباً.

وقال عبد الرحمن بن مهدي : لولا أني أكره أن يُعصى الله تمنيت ألا يبقى في هذا العصر أحدٌ إلا وقع فيّ واغتابني فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها.

وقال عبد الله بن محمد بن زياد : كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله قد اغتبتك ، فاجعلني في حل !!
قال :أنت في حل إن لم تعد ، فقلت له : أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك ؟ قال : ألم ترني اشترطت عليه .

وقال الحسن بن بشار : منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن أعتذر منها .

وروي عن الحسن أن رجلاً قال : إن فلاناً قد اغتابك ، فبعث إليه طبقاً من الرطب ، وقال : بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك ، فأردت أك أكافئك عليها ، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام.

Ads by SmileysWeLoveAd Options
وقال عبد الله بن المبارك : قلت لسفيان الثوري : يا أبا عبد الله ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ، ما سمعته يغتاب عدواً له قط ، فقال : هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يُذهبها .

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجل فاغتاب رجلا
فقال له عمر : إن شئت نظرنا في أمرك ، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية : ( إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا) وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية ( همازٍ مشاءٍ بنميم ) وإن شئت عفونا عنك ؟
فقال : العفو يا أمير المؤمنين ، لا أعود إليه أبدا .
 
رد: النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]

وهذا من أحسن القياس التمثيلي؛ فإنه شبَّه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه .. ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته، كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت؛ لما كان المغتاب عاجزًا عن دفعه بنفسه بكونه غائبًا عن ذمِّه كان بمنزلة الميت الذي يُقَطَّع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.

ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر، فعلَّق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذمِّ والعيب والطعن .. كان ذلك نظير تقطيعه لحم أخيه، والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه.

ولما كان المغتاب متفكهًا بغيبته وذمِّه، متحليًا بذلك .. شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه .. ولما كان المغتاب محبًا لذلك معجبًا به، شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتًا ..

ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه .. فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه للمحسوس، وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتًا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك ..

فكما أن هذا مكروه في طباعهم، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟!

فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه ..

فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق،،



ابن القيم
بارك الله فيكي أختي الكريمه وأكثر الله من أمثالك
 
رد: النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة

مشكوووووووور على الموضوع شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
 
رد: النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة

جزاكم الله خير
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى