من هو المعاق؟

تميم

******
ينزعج بعض الإخوة عندما يوجِّه أحد المثقفين نقداً لمناهج التعليم, ولا ريب أن الإنسان العاقل الذي اعتاد أن يعذر الآخرين يتفهّم أسباب هؤلاء المنزعجين؛ فبما أن أمريكا قد وضعت مناهج التعليم ضمن بنود أجندتها للإصلاح في الوطن العربي, فإنّ من ينادي بتطوير مناهج التعليم هو بوق لأمريكا حسب رأي الإخوة المبتهجين بمناهجنا التعليمية؛ ومثل هؤلاء مثل الفتاة البكر التي لم تر شيئاً من الدنيا لذا تتميز بكونها قنوعة غير متطلِّبة ومهما رأت من زوجها فإنها تقول: كلّ الناس مثلنا؛ عكس المتطلّعين إلى مناهج أوسع أفقاً وأعمق ثقافةً فمثلهم مثل التي سبق لها الزواج فهي دائمة التوثّب إلى الأفضل والأكمل والأمثل؛ لكن إذا صح تفضيل البكر في تكوين الأسرة لأنها أرضى باليسير حسب التعبير النبويّ, فإنّ نهضة المجتمعات ورقي الأمم لا تحتاج السذّجَ والقططَ المغمضة معدومة الخبرة فاقدة الكفاءة بل تعتمد بشكل أساسي على مناهج تعليمية طموحة فذّة يضعها الخبراء والمختصون والمبدعون كل في مجاله.

إن الذين يدعون إلى تطوير المناهج هم أولئك الذين تفتّحت آفاق وعيهم على عوالم أخرى واطلّعوا على مناهج التعليم في العالم المتقدم, وبما أن مقالتي هي عن المعاقين الذين تهمل الإشارةَ إليهم مناهجُنا العربية المزدادة تسطيحاً ككل شيء في ثقافتنا الاجتماعية التي تضمحلّ يوماً بعد يوم عكس المناهج الغربية التي تبدي اهتماماً واضحاً بتلك الفئة من الناس, فهذه بعض الأمثلة من مناهج القراءة الأمريكية للمرحلة الابتدائية: في الصف الثالث قصة فتاة معجزة في قدرتها على صفّ أحجار الدومينو رغم أنها ولدت بدون ذراعين؛ وفي الصف الرابع درس عن احتفال أقامته إحدى مدارس المعاقين وطُلب من كلّ مجموعة من التلاميذ أن تُبدع فكرةً لكسب المال عن طريق جذب مشاهدين أو مشاركين أكثر ومن ثم التبرّع بهذا المال للمدرسة, فكان الفائز الأول فتاة مصابة بالشلل السفلي أحضرت للمدرسة بمساعدة والدها بركة ماء اصطناعية فيها كميات من السمك الحي ليحاول المشاركون في الاحتفال اصطياد السمك مقابل دفع بعض المال, واستطاعت أن تجمع مبلغاً مالياً كبيراً تبرعت فيه لمدرستها؛ وفي السنة الخامسة درس عن لغة الإشارة التي يستعملها الصمّ البكم وهي قصة على لسان تلميذ يعاني والداه من هذه الإعاقة دون أن يتأثر هو نفسياً أو لسانياً, وتنتهي القصة بحصولهما على جائزة المدرسة لأفضل أبوين بسبب تفوّق أولادهما؛ أما في السنة السادسة فهناك درس عن تلميذ مصاب بالشلل السفلي انتقل إلى مدرسة جديدة بسبب انتقال عمل والده من مدينة لأخرى, وكان الفتى متخوّفاً من تجربته الجديدة لأنه سيضطر إلى التعامل مع زملاء جدد لا يعرف الكثير عنهم, ولما لمس والده مخاوفه أخبره بجملة بليغة أنّ أفضل مكان يتعلّم فيه المرء كيفية معاملة الناس على اختلافهم هو المدرسة, فتشجّع الفتى ولكنه لاقى كثيراً من العناء في مدرسته الجديدة لأنها ليست خاصةً بالمعاقين كمدرسته القديمة, وبعض التلاميذ لم يكن يرغب برؤية من يجرّ كرسيه بينهم, وأحدهم كان محبّاً للتفاخر بعضلاته ودائم التحدي لغيره بدعوته إلى المصارعة ليرى نظرات الإعجاب ويسمع صرخات الاستحسان من الفتيان والفتيات, حتى إنه تعرّض للتلميذ الجديد بالسخرية منه وأراد الأخير أن يتصرّف برد الفعل لولا تذكّره الحكمة التي نطق بها والده عن المدرسة كمكان مفيد للتدرّب على التعامل مع الناس, فتحمّل أذى التلميذ المشاغب ودعاه بهدوء إلى مباراة باليدين, فسخر منه ولم يقبل التحدي؛ وحانت الفرصة للفتى المعاق عندما أقامت المدرسة مباراةً بالشطرنج وكان هو الفائز الأول, فتحرّك المشاغب نحوه وصافحه مهنّئاً, ووافق على دعوته السابقة للمباراة باليدين, وكان وقتاً رائعاً للفتى المعاق ليُثبت أنه الأقوى بيديه كما أثبت أنه الأقوى بعقله, ومن ذلك اليوم أصبح هو والفتى المشاكس صديقين حميمين.

هذا غيض من فيض, علماً بأن المنهاج لا يعرض القصصَ بشكل وعظيٍّ أبداً, بل بأسلوب يتناسب مع عمر التلميذ ويُبحر به أحياناً في أعماق بطل القصة المعاق عبر قراءة "المونولوج" الداخلي له, ومن خلال سرد أحداث القصة مع الرسوم المعبّرة يكون الأثر كبيراً في نفس المتلقي؛ وأما كتب العلوم والرياضيات فهي حافلة بالصور التي تهدف لتقبل المعاقين, كصورة تلميذ معافى وبجانبه زميله على كرسي للمعاقين يقومان معاً بأمر مشترك كحل مسألة أو عمل تجربة؛ وأرجو أن لا يُفهم هذا الكلام أنه دعوة لتبني المناهج الأمريكية على علاّتها, لكنه تأكيد على قول ابن رشد رحمه الله في الاستفادة من الغير:(يجب علينا إذا وجدنا لمن تقدّمنا من الأمم السالفة وجهة نظر في الموجودات أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا إليه وحذّرنا منه وعذرناهم), والسؤال بالنسبة لمناهجنا: هل فيها أي نزعة إنسانية تجاه المعاقين؟ والسؤال بالنسبة للمربّين: كم عدد المساهمين في تربية الجيل على التعامل مع المعاق بشكل تلقائي وإنساني؟

سأترك الإجابة على هذين السؤالين للقارئ الكريم وأؤخر المثال الذي دعاني لكتابة هذه المقالة كي أجعله خاتمةً لها, لكني لا أملك إلا أن أحيّي سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز على خطوته المباركة في إنشاء مركز لأبحاث الإعاقة المترافقة مع الولادة كما في الخبر الذي ساقته لنا "الوطن" الأسبوع الماضي, فكثيراً ما يكون اكتشاف الإعاقة باكراً ما أمكن سبيلاً لعلاجها الأمثل, ولكن حبّذا لو ترافقت تلك الأبحاث بالدراسات الجنينية أو حتى فحوص ما قبل الزواج للمساهمة في التقليل من ولادة الأطفال الذين يحملون الأمراض المنتقلة بالوراثة والتي قد يشكّل علاجها عبئاً على الأسرة والمجتمع؛ وحبّذا لو أن المؤتمرات الفقهية تصدر فتوى تجعل فحوص ما قبل الزواج أمراً إجبارياً وليس تابعاً لاختيار الخاطبين أو عائلتيهما إذ إن ولادة فرد معاق لا يعود ضرره عليه وحده فحسب أو على أسرته فقط بل على المجتمع ككل, لذلك فإن من المصلحة العامة إجراء الفحص الطبي قبل الزواج لمنع زيادة الإعاقة الخَلقية كالتي تنجم عن زواج الأقرباء وهو أمر منتشر في المجتمعات العربية خاصة الخليجية منها.

يراجعني في عيادتي أحياناً بعض الأزواج المصابين بالإعاقة السمعية اللغوية, فيرافق أحد الأزواج زوجته دائماً خشية أن لا أفهمها ويتدّخل في الترجمة بيني وبينها مع أنه مثلها وتبدأ بيننا لغة الإشارة وقد نستعمل الورق وأكتب له السؤال ويكتب لي الجواب, وقد يُحضر لي ابنته التي بلغت مبلغ النساء فإذا بها صحيحة السمع سوية النطق, ويراجعني زوجان لديهما نفس المشكلة والزوجة معلمة في مركز للصمّ البكم وأولادهما أسوياء جسماً ونفساً, وكم تسرّني رؤية هؤلاء الذين تغلّبوا على إعاقاتهم ومارسوا حياتهم الطبيعية وتزوجوا وأنجبوا أولاداً سليمين أصحاء؛ وفي نفس الوقت يحزنني كثيراً رؤية طفل معاق عقلياً أو جسدياً تصطحبه والدته إلى العيادة وهي حامل وتصحب معها خشيتها أن يكون مولودها الثاني كالأول بسبب القرابة بينها وبين زوجها أو بسبب كبر سنّها المؤدي إلى إصابة المولود بالمنغولية, لذلك لا بد من التأكد من سلامة الجنين بالأجهزة الخاصة كالألتراسوند وهو بالنسبة لي ولأطباء كثيرين أهم من تحديد جنس المولود ذكراً كان أم أنثى؛ وحديثاً ظهرت تقنيات لتحديد جنس المولود حسب اختيار الأبوين ولها إيجابية في إيقاف الحيوان المنوي الذكري من تلقيح البيضة إذا كان حاملاً لمورِّثة مرض الناعور النزفي مثلاً وغيرها من المورِّثات التي تنتقل بالصبغي الجنسي المذكَّر, لكن سلبياتها الاجتماعية أكيدة إذا استغل بعض الأشخاص أو بعض الجماعات هذه التقنيات الجديدة لغزو العالم بجنس الذكور؛ لذلك كان رأي بعض الفقهاء في هذا الأمر أن يقتصر على حالة الضرورة فقط.

على قناة فضائية رأيت مؤخراً بطولة كرة طائرة جرت في العراق, والبديع في الأمر أن اللاعبين كانوا قد فقدوا طرفاً سفلياً أو أكثر, ومع ذلك فإن النقص في أجسادهم لم يمنعهم من ممارسة لعبتهم المفضلة دون مبالاة بالإعاقة, وكان للمحيطين بهم دور كبير في دعمهم نفسياً؛ وبالمقابل نرى أناساً يزيدون في مصاب المبتلى بالإعاقة فيعيّرونه بها, والطامة الكبرى أن يصدر هذا عمن مهمّته بناء النفوس وصناعة العقول, ففي مدرسة خاصة طلبت تلميذة مصابة بشلل في طرفها السفلي من معلمة الرياضيات أن تعيد لها شرح مسألة لم تفهمها, فما كان من المعلمة إلا أن سخرت منها بأنها مصابة بتخلف عقلي وليس بمجرد تأخر في المشي, وفي مرة أخرى هزئت هذه المعلمة من التلميذة مخبرةً إياها أنها لولا إعاقتها التي تجعلها تستغرق يوماً لتصل إلى غرفة المديرة لأرسلتها إليها لتلقى العقاب كغيرها, وصمتت التلميذة في المرتين لتسرّ إلى صديقتها بدعائها على هذه المعلمة الحامل أن يكون جنينها معاقاً؛ والحقيقة إن المبتلين بإعاقة من أي نوع ليسوا معاقين ما داموا يملكون الإيمان والعقل والإرادة؛ أما تلك المعلمة فهي معاقة إنسانياً ومتخلّفة وجدانياً, والأفضل أن ندعو الله لها ولأمثالها بالشفاء.

الوطن السعودية 6/6/2005
 
رد: من هو المعاق؟

هزئت هذه المعلمة من التلميذة مخبرةً إياها أنها لولا إعاقتها التي تجعلها تستغرق يوماً لتصل إلى غرفة المديرة لأرسلتها إليها لتلقى العقاب كغيرها, وصمتت التلميذة في المرتين لتسرّ إلى صديقتها بدعائها على هذه المعلمة الحامل أن يكون جنينها معاقاً؛ والحقيقة إن المبتلين بإعاقة من أي نوع ليسوا معاقين ما داموا يملكون الإيمان والعقل والإرادة؛ أما تلك المعلمة فهي معاقة إنسانياً ومتخلّفة وجدانياً, والأفضل أن ندعو الله لها ولأمثالها بالشفاء.




[align=center]
فعلا اتها هي المعاقة !!!!!
[/align]
 
رد: من هو المعاق؟

سلمت على الموضوع القيم والأعاقة إعاقة فكر لاجسد .
 
رد: من هو المعاق؟

يعطيك العافيه اخوي على ها الموضوع
 
رد: من هو المعاق؟

شكرا لمروركم واثراء الموضوع.
 
رد: من هو المعاق؟

لا يخفي على كل المجتمع حاجتنا لتغير المناهج لا نها اصبحت لا تسمن تعلميا ولا تغني عن جهل
اذكر مره كان بجواري بمكانا ما فتاة تحمل مؤهل عالي واكتشفت بعد حواري معها بان المؤهل الذي تحمل لم يتعدى سوى الشهاده ولم يتخطي عقلها لا اعمم ولكن نحتاج بشدة لترقيه المناهج ولكن بأيدي ابناء البلد لان امريكيا او لا غيرها لن يحترموا خصوصيتنا
وتعليقي على قصة المعلمه والفتاة المعاقه
الاعاقه اعاقه فكر وافتقاد مبدأ واحساس انساني وهي ماتعاني منه تلك المسميه معلمه ولكن هي لا ترتقي الي العلم اسال الله لها الشفاء
شكرا اخي تميم للموضوع الهادف
 
رد: من هو المعاق؟

لا يخفي على كل المجتمع حاجتنا لتغير المناهج لا نها اصبحت لا تسمن تعلميا ولا تغني عن جهل
ونشوف الفرق بين مناهجنا ومناهج اي دولة عربية اخرى (المناهج العلمية كمثال)، تجد ان الطالب في الصف السادس ابتدائي عندنا يقل تفوقا عن نظيره في مصر، حتى في المصادقة على الشهادات.

شكرا لمرورك
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 5)

عودة
أعلى