مقال حقيقي محزن !!

بعد إلحاح من إخوتي الصغار على أن اُحضر لهم عشاءً من (ماكدونالدز) -المطعم الذي أكرهه كثيراً- , اضطررت أن اُدرعم الى أقرب فرع حتى أشتري لهم وجباتهم التي يحبون. وجدت شخصاً قصير القامة يلبس ملابس موظفي ماكدونالدز (الصفراء بقبعة سوداء) و يظهر من ملامح وجهه أنه من ذوي الإحتياجات الخاصة (متلازمة داون), او ما يُسمى بـ "العبط المغولي" إن لم أكن مخطئاً. كان يقف بجوار جهاز الكاتشب و يستند على الرف بكل براءة منشغلاً بحفر شيء بأصابعه على قطعة الخشب.. ثم ما لبِث أن إنشغل بالتفرج على بضعة مراهقين يأكلون داخل المطعم و يتضاحكون.. كانَ يقف بشكل ثابت لا يفعل شيئاً غير النظر إلى هؤلاء المراهقين.. كنت أخشى أن يتعرض لموقف سخيف من هؤلاء المراهقين, ولكنني إنشغلت بطلب العشاء. تذكرت الفتى بعد بضعة دقائق فالتفتُّ باحثاً عنه فلم أجده.. نظرت الى لوحة الإعلانات الخاصة بالمطعم فوجدت إعلاناً منهم بخصوص توظيفهم لذوي الإحتياجات الخاصة, فابتسمت للخبر على الرغم من بغضي الشديد للمطعم.. بعد تأمل كثيف, لم أجد ما يدعوا للفرح او الإبتسام لهذا الخبر.. لأنه مجرد خبر غير مدروس, ولا أظن ان ذوي الإحتياجات الخاصة سيستفيدون بهذه الطريقة, خصوصاً اذا لم يكن هناك إهتمام من قبل المسؤولين بتوجيههم و الوقوف معهم بدلاً من تركهم يتفرجون على الزبائن.

لعلي أتذكر حينما كنت طفلاً في الإبتدائية.. حينما كان للجيران طفل (أقرع), و كنت أخاف من هذا الطفل, و أهرب منه لأنه لا يستطيع الكلام و ملامح وجهه كانت مخيفة بالنسبة لصغير مثلي.. تغيّرت نظرتي لهذا الطفل بعد أن رأيت أخيه الكبير يحتضنه و يقبله.. أدركت أن الطفل إنسان و لم يكن غولاً, بدليل أن أخيه قد قبّله أمامي.. و النقطة التي أردت أن أستخرجها من هذه القصة, أن ذوي الإحتياجات الخاصة في بيئتنا يتعرضون للضغط النفسي المتزايد, في ظل غياب الوعي الأسري خصوصاً بين الأطفال.. كان هناك شابٌ في الحارة يركض خلفه الأطفال و يرمونه بما في أيديهم.. وجدته يختبئ بين عمارة و مسجد مستنداً على الجدار و يتنفس بصعوبة.. لقد كان منظراً مؤسفاً حقاً..

و في المرحلة المتوسطة.. كان هناك فتى من إحدى الجنسيات العربية, من ذوي الإحتياجات الخاصة.. لم أكن أعرف لماذا كان أهله مصرّين على أن يدرس في مدرسة نظامية بدلاً من مدرسة لذوي الإحتياجات الخاصة. كان مقوّس القدمين, و لا يستطيع المشي بسهولة, كذلك في نطقه.. كان بطيئاً في استخراج الكلمات, فكان أقرانه يضحكون منه في الفسحة و يضايقونه, و يطلبون منه أن يغني لهم بحجة أن صوته (جميل) كما كان يقول بعضهم. و كان المسكين يُصدّق ما يُقال له, لأنه في إعتقادي لم يسمع كلمة طيبة من أحد, فظن أن هؤلاء معجبين بصوته.. و أخذ يغني بصورة تُضحك من حوله.. ثم لا يلبث حتى يأتي مشرف الساحة و يفرّق الأولاد و يطالب الفتى بالصمت, لكن مشكلة (عُمر) أنه لا يصمت بسهولة. هذا غير المقالب التي يضعونها له في الفصل, و قد رأيتهم في الساحة يأتون بألعاب على شكل حيوانات صناعية و يضعونها أمامه وهو يأكل, فيصرخ صراخاً شديداً يسمعه كل من في الساحة..! لقد كان هذا نظامهم, و كنتُ أأسف لأنني لم أفعل شيئاً لمساعدته..

في إحدى الأيام.. خرج عمر في نهاية الدوام فوقف على الشارع .. وقفت سيارة مليئة بالشباب, و قد عرضوا عليه توصيله إلى المنزل.. إختلفت الروايات التي وصلتني من الطلاب بأنه وافق على إيصاله لأنه أحسن الظن فيهم, و فيه رواية أخرى أنه رفض و أرغموه على الركوب.. فأخذوه إلى صحراء الثمامة (وما أدراك ما صحراء الثمامة), و تعرض للإغتصاب من قبلهم جميعاً.. حتى إنهم تركوه في الصحراء لوحده.. لا أعرف كيف استطاع عمر أن يصل الى مدينة الرياض, ولكنه فعلاً إستطاع أن يفعل ذلك, و يذهب به أهله إلى الشرطة للتحقيق في القضية. وفي اليوم التالي, كان فصلنا (المشاغب) لا يعلم بما حصل, بعكس فصل (عُمر) .. إلا أن مدير المدرسة قرر أن يأخذ عمر و الضابط و الطبيب الشرعي إلى فصلنا أولاً .. كنتُ أنا و إثنين من زملائي قد طُردنا من الفصل لمشاغباتنا فوقفنا خارج الفصل (نقشم فصفص و نسولف) .. وجدتُ مدير المدرسة قد أتى و على وجهه ملامح الغضب و الجدية, و ينظر إلى أحد زملائي و يقول لعُمر: "هذا هو؟" .. فأتى عُمر يمشي بهدوء و بصوت شاحب يقول: "لأ.." . لم أكن أعرف مالقصة, ولكنني حينما رأيت وجه الضابط ذو النجوم الكثيرة, و الطبيب الشرعي (تفلت العافية) كما يقولون و عرفت أن القضية كبيرة جداً.. يتجه المدير إلى زميلي الثاني فيقول: "هذا؟.." .. فيجيبه عمر بالنفي.. ثم يتجه إلي المدير و يقول : "هذا؟؟" .. لم أكن أكره مدير المدرسة .. ولكنني كرهته فعلياً حينما أشار بإصبعه القذر نحوي, ربما لأنني كنت لاأعلم مالقضية, ولكنني إزددت كرهاً له بعد أن عرفت مجرى القضية و لم أكن أحب أن أكون في يوم من الأيام سبباً في إيذاء عمر. نظر إليّ عمر و أطال النظر .. و بدأت اتسائل في نفسي لماذا يطيل النظر إليّ.. لعله يتأخر في الكلام كعادته.. و فعلاً نطق بـ "لا" .. وما أحلاها من "لا" ذلك اليوم.

ذهب المدير به و بالضابط و الطبيب الى بقية الفصول ليبحثوا عن المشتبه بهم.. ولكنني سمعت من زملاء عمر في الفصل أن من قاموا بإختطافه, ليسوا من المدرسة.. لم أشأ أن أدخل في تفاصيل القضية المزعجة, و لم أبحث عن النتائج .. ولا أعلم ماذا حل بعد ذلك بين عمر و خاطفيه, و لكنني أزعم أن الشرطة لم تستطع إيجادهم.


عمر.. كان حالة من الحالات التي رأيتها تعاني في تلك البيئة السعودية.. لا أدري مالذي جعلني أتذكر قصة عمر.. ربما كان موظف المطعم المسكين.. ولا أعلم كيف سأنهي هذا المقال, ولكن أتمنى أن تكون الفكرة قد وصلت..
 

اعضاء يشاهدون الموضوع (المجموع: 0, الاعضاء: 0, زوار: 0)

من قرأ الموضوع (مجموع الاعضاء: 1)

اعضاء قاموا بالرد في الموضوع (مجموع الاعضاء: 2)

عودة
أعلى