نعم: كيف يعيش المعاق؟

كيف يعيش المعاق؟

كتبت/ أ. عائشة الحكمي




ربَّما تَعتقدون أنَّ هذا السؤال تقليديٌّ يَسأله كلُّ إنسان أُصيب بإعاقة، وتكون الإجابةُ دائمًا: المعاق هو إنسانٌ يجب أن يَعيش حياةً طبيعيَّة، ويتغلَّب على إعاقته بالتحدِّي.

ولكن ليس هذا سؤالي، ولا هذه هي الإجابة التي أبْحَث عنها: كيف يعيش المعاق؟

أريد أن أَعرِف حُدوده، ومستواه أمامَ نفْسه وأمامَ الناس، المعاق يعيش حياةً متناقِضة أمامَ الواقِع، وأمامَ مشاعرِه وإنسانيته، المعاق يَعيش لحظاتِ ضياعٍ، الإعاقة أخذَتْ كلَّ صلاحياته!


مشاعِرُ المعاق بداخله، ولا يَستطيع أن يُفصِح عنها، يُقدِّم تنازلاتٍ لكي يَقبلَه الآخرون، لا يستطيعُ أن يُحِبَّ ويُعبِّر عن حبِّه، لو أنَّ الوسادةَ تتكلَّم لقالتْ: رِفقًا بالمعاقين؛ لأنَّها ترَى دموعهم آخِرَ النهار.


أتمنَّى أن نُوقِف الشِّعارات التقليديَّة: التحدِّي والإرادة، ساعدونا، وضحُّوا لنا، أتمنَّى مَن يقرأ هذه الكلماتِ أن يقولَ: إنَّ لكم حدودًا لا تتجاوزوها، لا نُريد شعاراتٍ ونُصدِّقها، وهي ليستْ موجودةً.


لقدْ عايشتُ الحياةَ مع هذه الشريحة الغالية مِن المجتمع، وأفْهَم جيِّدًا كيف يُفكِّرون، وأتفهَّم كثيرًا كيف يشعرون، لكنِّي حتمًا لا أعرِف كيف يعيشون! مثلما لا أعرِف كيف يعيش غيرُهم، فكلُّ إنسان يعيش حياتَه الخاصَّة التي لا يَعْلَمها إلا الله، ثُم المقرَّبون مِن حوله، بل ربَّما غفَل المقرَّبون عن معرفةِ الكثيرِ عنه!

تَمُوتُ النُّفُوسُ بِأَوْصَابِهَا
وَلَمْ يَدْرِ عُوَّادُهَا مَا بِهَا
وَمَا أَنْصَفَتْ مُهْجَةٌ تَشْتَكِي
أَذَاهَا إِلَى غَيْرِ أَحْبَابِها


التحدِّي والإرادة ليسَا شعارًا للمعاقين فحسْبُ، بل هو شِعارٌ لكل إنسان؛ طفلاً كان أم راشِدًا، ذَكرًا كان أم أنثى، صحيحًا كان أم مَريضًا، مبتلًى كان أم معافًى، مُسلِمًا كان أم كافرًا؛ لأنَّ أنْكادَ الدنيا تتطلَّب منا العيشَ بإرادة قوية، وتَحدٍّ كبير للصعوبات والعراقيل، والعقبات والأمراض، والإعاقات التي تَنضَحُ بها الحياةُ الدنيا، ألَمْ يَقُلِ الله – تعالى -: ï´؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ï´¾[البلد: 4]؟! هل قال ï´؟ الْإِنسَانَ ï´¾ أم المعاق وحْدَه؟!


لا شكَّ أنَّ وسادةَ المعاق مُبلَّلة بالدموع، لكنَّها ليستِ الوسادة الوحيدة، فكلُّ الوسائد مبتلَّة بالدموع، حتى وسادة الملوك والأمراء، ووسادة السادة وذوي الأحساب والأنساب؛ لأنَّ للجميعِ قلوبًا خفَّاقة تتألَّم، ومتى تألَّم القلبُ سالتِ الرُّوح دموعًا على الخدود.


سأقصُّ عليكِ ثلاثَ قصص حقيقيَّة لأُناسٍ من أمصار مختلفة، لم أقرأْها في مكان، أو أسمعها عن فلان، بل هي حكاياتُهم بأفواههم، ومِن خلال معرفتي بهم.


القصة الأولى: كانتْ في إحدى دُور الأيتام لدَيْنا، لقيتُ فتاة لقيطة كانتْ قد تزوَّجت بشابٍّ لقيط، وأنجبتْ منه طفلةً جميلة كالقمر، لكن الحياة الزوجية بينهما لم تَستقِمْ برغم ذلك، فكان إذا تشاجَرَا وتنازعَا فيما بينهما اتَّهم كلُّ واحد منهما الآخَرَ بأنَّه ابنُ زِنا!


طُلِّقت صاحبتُنا، ولم تَجِدْ لها مأوًى سوى الميتم الذي نشأتْ فيه لتعودَ إليه مرَّة أخرى، لكنَّها عادت إليه هذه المرَّةَ وهي تحمِل آلامًا مضاعَفة، آلام اللقيطات، وآلام المطلَّقات، وآلام الأمَّهات!


تقول صاحبتنا: "إنَّ ابنتي ليستْ لقيطةً، فهي تعرِف والديْها، لكنني أخشَى أن يُعيِّرها الناسُ حين تَكْبَر، فيقولون لها: "يا ابنةَ اللقيطينِ".

بظنِّكِ: أيّ ألَم هذا الذي تحمله هذه الفتاةُ وابنتُها التي قدَّر الله لها أن تعيشَ هي الأخرى كوالدتِها بيْن اللقطاء؟!

وبربِّكِ: ما الذي تحتاجه مثلُ هذه الفتاة وابنتُها بعدَ الصبر والثقة بالله سوى الإرادةِ وتحدِّي الآلام؟!

القصة الثانية: قبلَ بِضْع سِنين، كنتُ على اتِّصال بسيدة مصريَّة مصابة بسرطان الثدي، لم تكن هذه المرأةُ الفاضلة بحاجةٍ إلى نصائحي أو دَعْمي، فلقد كانتِ امرأةً مؤمنة بربِّها، تعرِف أنَّ الله قد قدَّر عليها المرضَ لِمَا فيه خيرها، وكانتْ لا تفتأ تذكُر مَكَّةَ والعمرة وماء زمزم، كلَّما سمعتْ صوتي القادم مِن بلاد الحرمَيْن.

وسرعان ما تفشَّى السرطان في جسدِها، حتى كدتُ أفقِد صوتها مع مرورِ الأشهر، لقد بات ضعيفًا ومتحشرجًا، لكنَّ فَيْضَ الألَم لم يكن ليمنعها من التحدُّثِ إليَّ كلَّما اتصلتُ للسؤال عنها.

لقدْ أخبَرها الأطباءُ بأنَّها تعيش أيامَ عمرها الأخيرة، وأنَّ بقاءها على قيْد الحياة لأطول مِن ذلك هو إعجازٌ إلهي، لكنَّها برغم ذلك كانتْ تُؤكِّد لي بأنَّ الأعمار بيد الله، وليس بيدِ الأطبَّاء.

فقولي بربِّكِ: ما الذي تحتاجه امرأةٌ مثلها تُصارِع المرضَ والموت، إلا الإيمان وإرادة صُلبة تتحدَّى بها هذا الداءَ الخبيث، الذي لم يتركْ فيها بوصةً حيَّة إلا اغتالها؟!

اتصلتُ عليها في أحدِ الأعياد، لكنني لم أتلقَّ ردًّا، لقد انقبض قلْبي، ولم أجِدْ بُدًّا مِن الاتصال بابنها الكبير كي أسأله عنها:

وَمَنْ يَسْأَلِ الرُّكْبَانِ عَنْ كُلِّ غَائِبٍ
فَلاَ بُدَّ أَنْ يَلْقَى بَشِيرًا وَنَاعِيًا

لقد تُوفِّيت هذه المرأةُ الفاضِلة، عسى الله أن يرحَمَها رحمةً واسعة، وأنْ يُبدِلها دارًا خيرًا مِن دارها، وأهلاً خيرًا من أهلها، وأن يجمعنا بها مع الأنبياء والصِّدِّيقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا، اللهم آمين.

القِصَّة الأخيرة: مِن العراق، لشابٍّ في مُقتَبل العمر، كان رافضيًّا ثم أنعم الله عليه بالهدايةِ إلى طريقِ أهل السُّنة والجماعة، لقدْ شرَح لي كيف عذَّبه الرافضة خلالَ الحرْب العراقية الأخيرة، فكان مِن بين ما قال: "يظنُّ الناس أنَّ الأمريكان هم مَن يعذبون أهل العراق، ولكن الحقيقة هي أنَّ الرافضةَ هم الذين يُعذِّبوننا ضِعْفَ ما يفعله الأمريكان بِنا".

اقتيد هو ومجموعةٌ مِن الشباب العِراقي السُّنِّي إلى معاقل للتعذيب، ثم أُعطي كلُّ واحِد منهم كُتيبًا يحوي ألوانًا شتَّى مِن طُرق التعذيب، وأُرغِم كلُّ واحد منهم على اختيارِ الطريقة التي يُعذَّب بها! فاختار صاحبُ القصة طريقةَ تعذيب تُسمَّى بالعراقية "دبة الزهرا"، وهي طريقة تقوم على رفْع أنبوبة الغاز عاليًا، ثم ربْطها بالمروحة المعلَّقة في السقف، وبعدَ ذلك يقومون بإسقاطها فوقَ الشخص المرادِ تعذيبُه!

يقول: "كنت أسمع صوتَ أضْلاعي وهي تتهشَّم، وأسمع أصواتَ الرؤوس بقُرْبي وهي تُشَجُّ، ولا أدري بعدَ كل هذا كيف استطعتُ أن أعيشَ حتى اليوم؟!".

حين سألتُه: "لِمَ اخترتَ هذه الطريقة بالذات؟" قال: "لقدْ كانت أخفَّ طرق التعذيب"!

فبالله عليكِ، ما الذي يحتاجه مثلُ هذا الشابِّ المعذَّب في سبيل الله سوى الثِّقة بالله، والتحلِّي بالإرادة والإيمان لقهْر الأعداء؟!

كل واحدٍ منَّا يظنُّ نفْسَه المعذَّب الوحيد في الدُّنيا، أو أنَّه المبتلَى الأكثر بلاءً وامتحانًا على وجهِ الأرْض، لكنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل))؛ رواه النسائي والبيهقي.

ومَن يقرأ القرآن ويُدرك حقيقةَ ابتلاء الأنبياء - عليهم السلام - وشدَّة آلامهم لأجلِ إعلاء كلمةِ التوحيدِ، يُدرك أنَّه في نِعمة يَغبِط نفْسَه عليها.

تصِف السيدةُ الطاهرة عائشة - رضي الله عنها - وجَعَ النبي - عليه الصلاة والسلام - في مرضِه الذي مات فيه بقولها: "ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجع مِن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ متفق عليه.

((يا أيُّها الناس، أيُّما أحدٍ من الناس أو مِن المؤمنين أُصِيب بمصيبة، فليتعزَّ بمصيبتِه بي عنِ المصيبة تُصيبه بغيري؛ فإنَّ أحدًا من أمَّتي لن يُصابَ بمصيبة بعْدي أشدَّ عليه مِن مصيبتي))؛ رواه ابن ماجه.

في غمرةِ الابتلاء ينسَى المبتلَون أنَّ الله ابتلاهم؛ لأنَّه يحبُّهم؛ ((إنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخِط فله السُّخْط))؛ رواه الترمذي.

أفلا ترضين أن يُحبَّكِ الله؟! إذًا تذكَّري دومًا: ((مَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخِط فله السخط)).

تقولين: "المعاق يَعيش لحظاتِ ضياعٍ، الإعاقة أخذَتْ كلَّ صلاحياته"، وهذا تفكيرٌ خاطِئ ولا شكَّ؛ لأنَّ الإعاقة لا تأخُذ كلَّ الصلاحيات كما تَزعُمين، إلا إذا كانتْ إعاقةً عقليَّة كاملة.

لديَّ صديقتانِ كفيفتان؛ إحداهما تزوَّجتْ بعدَ الجامعة رجلاً بصيرًا، والأُخرى تعمل الآن مُعلِّمة للكفيفات وبراتبٍ جيِّد، اللهمَّ بارك.

وإنْ كان أمر هاتين الفتاتين مجهولاً لدَى الناس، إلا أنَّ كثيرًا مِن الناس يعلمون أنَّ الذين تعاقبوا على منصِب "مفتي عام المملكة العربية السعودية" قد فَقَدوا أبصارَهم في مرحلةٍ ما مِن أعمارهم، بدءًا بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف - يرحمه الله - مرورًا بصاحب السماحة العلاَّمة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - يرحمه الله - وانتهاءً بصاحب السماحة فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ - حفِظه الله.

لقدْ كان الصحابيُّ الجليل ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - ضريرًا، وفيه نزَل قولُه - تعالى -: ï´؟ عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ï´¾ [عبس:1 - 2]، ومع ذلك لم تكن إعاقتُه البصرية لتُفقِده كلَّ صلاحياته، فقدْ كان مؤذِّنًا للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع بلال - رضي الله عنه - واستخلَفه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّتين على المدينة، فكان يُجمِّع بالناس، ويخطب ويُصلِّي، وكان مجاهدًا، إذا غزَا قال: "ادْفعوا إليَّ اللواءَ فإنِّي أعْمى لا أستطيع أن أفرَّ، وأقيموني بين الصفَّيْن".

كما فقَد الإمامُ الترمذي بصرَه في آخر عمره، مثلما فقده ترجمانُ القرآن عبدُالله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخِرِ عمره وأنشَد:

إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا
فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبٌ ذَكِيٌّ وَعَقْلٌ غَيْرُ ذِي خَطَلٍ
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ‏

أمَّا أمير المدينة أَبَان بن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - فقدْ كان مُصابًا بالصَّمم، قال محمَّد بن سعد: "كان ثِقةً، وكان به صَممٌ ووضح كثير، وأصابَه الفالِجُ قبلَ أن يموت"، والفالِج شللٌ يُصيب أحدَ شقِّي الجسم طولاً، وكذلك كان الأديبُ الكبير مصطفى صادق الرافعي مصابًا ببعض الصَّمَم، وكان يُكتَب له ما يُراد مخاطبتُه به.

أمَّا النبيُّ موسى - عليه السلام - فقد كان أشهرَ العظماء الذين عانَوْا مِن صعوبات في النُّطق، وقد أُصيب الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يومَ أُحُدٍ فسقطتْ ثناياه فهُتِم، وأثَّر ذلك في نُطقه، كما جُرِح عشرين جراحةً بعضُها في رِجله فعرج - رضي الله عنه وأرضاه.

أمَّا الصحابيُّ الجليل عمرو بن الجموح - رضي لله عنه - فقدْ كان شيخًا كبيرًا، وكان أعرج؛ قال الواقدي: "لم يشهَدْ بدرًا، كان أعرجَ، ولمَّا خرَجوا يومَ أُحد منَعَه بنوه، وقالوا: عَذَرَكَ الله، فأتى رسولَ الله يشكوهم، فقال: ((لا عليكم ألاَّ تمنعوه؛ لعلَّ الله يرزقه الشهادة))، قالتِ امرأته هندٌ أختُ عبدالله بن عمرو بن حرام: "كأنِّي أنظُر إليه قد أخَذَ دَرقتَه وهو يقول: اللهمَّ لا ترُدَّني، فقُتِل هو وابنه خلاَّد".

وكذا كان الإمامُ شيخ الإسلام عطاء بن أبي ربَاح مفتي الحرَم - أعورَ، أشلَّ، أفطسَ، أعرجَ، أسودَ!

كما كان الأميرُ الكبير موسى بن نُصَير متولِّي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس - أعرَجَ هو الآخَر.

ثم مَن قال: إنَّ المعاق "لا يستطيع أن يُحِبَّ ويُعبِّر عن حبِّه"؟! لعلَّكِ لم تقرئي روائعَ الرافعي التي أخرجَها للمكتبة العربية جرَّاءَ حبه الكبير للأديبة مي زِيادة، أما الشاعر الضرير بشَّار بن بُرْد فقدْ عشِق امرأةً يقال لها: "عبدة"، وفيها يقول:

يُزَهِّدُنِي فِي حُبِّ عَبْدَةَ مَعْشَرٌ
قُلُوبُهُمُ فِيهَا مُخَالِفَةٌ قَلْبِي
فَقُلْتُ دَعُوا قَلْبِي بِمَا اخْتَارَ وَارْتَضَى
فَبِالْقَلْبِ لاَ بِالْعَيْنِ يُبْصِرُ ذُو اللُّبِّ
وَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنَانِ فِي مَوْضِعِ الهَوَى
وَلاَ تَسْمَعُ الأُذْنَانِ إِلاَّ مِنَ الْقَلْبِ
وَمَا الحُسْنُ إِلاَّ كُلُّ حُسْنٍ دَعَا الصِّبَا
وَأَلَّفَ بَيْنَ الْعِشْقِ وَالعَاشِقِ الصَّبِّ

والمعاق ليس محبًّا وحسْبُ، بل ومحبوبًا أيضًا، فقد أحبَّ الشاعر العباسيُّ بهاء الدين زهير - ويقال غيره - امرأةً عمياء، قال فيها هذه الأبيات الرقيقة:

قَالُوا تَعَشَّقْتَهَا عَمْيَاءَ قُلْتُ لَهُمْ
مَا شَانَهَا ذَاكَ فِي عَيْنِي وَلاَ قَدَحَا
بَلْ زَادَ وَجْدِيَ فِيهَا أَنَّهَا أَبَدًا
لاَ تُبْصِرُ الشَّيْبَ فِي فَوْدِي إِذَا وَضَحَا
إِنْ يَجرَحِ السَّيْفُ مَسْلُولاً فَلاَ عَجَبٌ
وَإِنَّمَا عَجَبِي مِنْ مُغْمَدٍ جَرَحَا
كَأَنَّمَا هِيَ بُسْتَانٌ خَلَوْتُ بِهِ
وَنَامَ نَاظِرُهُ سَكْرَانَ قَدْ طَفَحَا
تَفَتَّحَ الْوَرْدُ فِيهِ مِنْ كَمَائِمِهِ
وَالنَّرْجِسُ الْغَضُّ فِيهِ بَعْدُ مَا انْفَتَحَا

وامتدَح الشاعر ابن تميم التلجلج في لِسان محبوبته قائلاً:

عَابُوا التَّلَجْلُجَ فِي لِسَانِ مُعَذِّبِي
فَأَجَبْتُهُمْ لِلصَّبِّ فِيهِ بَيَانُ
إِنَّ الَّذِي يُنْشِي الحَدِيثَ لِسَانُهُ
وَلِسَانُهُ مِنْ رِيقِهِ سَكْرَانُ

أمَّا الحُدود التي تَتكلَّمين عنها فوَحْدَكِ مَن يصنعُها، تمامًا كما يفعل الكثيرون، سواء كانوا أصحَّاءَ أم مرْضى، ولُغة اليأس التي تَتكلَّمين بها هي لُغتكِ وحْدَكِ، وليستْ لُغةَ المعاقين جميعهم، فهُم أناس أعْرِفهم عن قُرْب، وأعرِف شكلَ الألَم الذي يعانون منه، وأنفاس الأمَل التي يَعيشون بها.

إنَّ لكلِّ إنسان طاقاتٍ وقدراتٍ يَعرِفها من نفسه، معاقًا كان أمْ غيرَ معاق، والله يقول: ï´؟ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ï´¾ [البقرة: 233]، وكما أنَّ قدراتِ الصغير تختلف عن قدراتِ الكبير، وقُدرات الصحيح تَختلف عن قُدراتِ المريض، وقُدرات المرأة تختلف عن قُدراتِ الرجل، وقُدرات النحيلِ تختلف عن قُدراتِ المفتول العضلات، كذلك تختلف قُدراتُ المعاقِ عن غيره؛ لأنَّ هناك فوارقَ فرديةً بيْن البشَر، وليس لأنَّه معاق؛ ï´؟ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ï´¾ [البقرة: 286].

وقدْ أعْذَر الله - سبحانه وتعالى - هذه الشريحةَ مِن المجتمع في بعضِ الأحكام؛ فقال - تعالى -: ï´؟ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ï´¾ [النساء: 95]، وقال: ï´؟ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ï´¾ [الفتح: 17]؛ أي: ليس عليهم حرَجٌ في ترْك الجهاد، فلِمَ الحرج إذًا؟!

في الحقيقة، لستُ أنا مَن يخبركِ بحدودِ قُدراتكِ، فهذه قُدراتكِ أنتِ، وأنتِ مَن عليه أن يُخبرني بذلك، أمَّا أنا فلا أعلَمُ إلا قُدراتِ نفسي وإمكاناتي، وطاقاتي وحدودي، وقُدراتي الآن تتوقَّف عندَ حدودِ هذه الأسطر.

لستُ أملك في الختام إلا الدعاءَ لكلِّ أحبَّتي المعاقين مِن ذوي الحاجات الخاصَّة، فوق كلِّ أرْض، وتحتَ كلِّ سماء، بأن يَشفيَهم الله - تعالى - شفاءً تامًّا لا يُغادر سقمًا، وأن يرفعَ عنهم البلاء، وينزل عليهم الصَّبر، ويُقدِّر لهم الخيرَ حيث كان، ثم يُرضِّيهم به، وأن يُفرِغَ عليهم حمدَه تعالى على كلِّ حال، ويُسعِد قلوبهم الطاهِرة في كلِّ الأحوال، ولا يجعل لهم حاجةً عندَ أحد مِن العالمين، اللهمَّ آمين.





التعليق:

نعم ، المعاق ـ ذكر أم أنثى ـ شخص طبيعي جداً يحس ويتألم ولديه قدرات ذهنية وبدنية ربما أكثر بكثير من الأصحاء ، ولكن المجتمع قد يكون السبب الأوحد في تثبيط هممه بل والتحقير والتقليل من قدراته ، وربما هو نفسه أيضاً من كبح جماح نفسه وتقييد ابداعاته وفكره المبدع ...... بينما التاريخ يشهد في الماضي وفي الحاضر أن من بين من غيّر وجه التاريخ معاقون بمختلف أنواع الإعاقات!
 
رد: نعم: كيف يعيش المعاق؟

(وجع الأمة) .... حيّاك الله وبيّاك ... واشكر لك مرورك الجميل الكريم العطر ... واشكر لك تقييمك وإعجابك الذين أعتز بهما .... شكر الله سعيك
 
رد: نعم: كيف يعيش المعاق؟

المعاق مو صاحب رساله وشعارات وتحديات وبس
هو انسان يعيش حياته بطريقه مختلفه عن الاخرين ممكن يتفوق ويبدع بطريقته الخاصه فيه ناس مناالي يميزهم انهم عايشين بسلام داخلي غريب
وناس تتعب اكثر والي يميزها انجازهم يكون متقن اكثر
ومنا ناس الحياه هي الي ميزتهم ونحتت شخصياتهم لحد ماصارو مبدعين
ومنا ناس طاقتهم عجيبه بس مانعطواي فرصه للابداع وهذول اغلبنا للاسف
عموماكلهم عايشين ويادون رساله مثل السليمين ولكن باختلاف ومتى مااحترم مجتمعنا هذا الاختلاف راح يصير اغلبنا متميزين ومافيه مجال للبكاء على الوسايد
وقت مايحترم اختلافي وليس تخلفي راح اكون مبدعه.
 
رد: نعم: كيف يعيش المعاق؟

سعودية كول ... أشكر لك مرورك الجميل الكريم العطر وإضافتك الضافية على الموضوع . . وفقك الله
 
رد: نعم: كيف يعيش المعاق؟

أعتذرلم أنتبه،وضعت نسخةغيرمترجمة ولم أستطع إيجادها بالترجمة بعد البحث .
الوصف:
" الأمر بكل بساطة أن الله قد جعل الحياة امتحاناً ، وبالتالي لا يوجد أي إنسان يقدر على النجاة قبل أن يمتحن ،
فحمقى هم الذين يستأنفون لوم العالم على ظروفهم بدلاً من إدراكهم أن تلك الظروف هي فرصة لهم ، كي يتحولون عن الدنيا إلى شيء أكثر تميزاً بكثير ".
 
رد: نعم: كيف يعيش المعاق؟

واو موضوع شيق جدا اخي الناصح الصادق
تقبل مروري اسعد الله أوقاتك بكل الخير
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 4)

عودة
أعلى