أصول تلقي العلم وضوابطه

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع الصبر
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
  • الردود 1
  • المشاهدات 3,511

الصبر

عضو جديد
أصول تلقي العلم وضوابطه
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدا، أما بعد:
فضل العلم وأهله:
فضل العلم من الكتاب والسنة:
فإن فضل العلم وأهله لا يخفى على عاقل بصير، لأن الله – سبحانه وتعالى – يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ويقول جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال – سبحانه وتعالى -: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(1).
العلم مستودع الأحكام:
والعلم هو الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من القرآن والسنة، وبيان الحلال والحرام، والأخلاق والآداب، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من العقائد، والمعاملات، ومسائل العلم، قال – سبحانه وتعالى -: {إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
فالعلم هو النور الذي يسير عليه أهل الإيمان في الدنيا والآخرة، وهو الروح الذي تحيا به القلوب، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وهو الحياة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فالعلم هو البصيرة، وهو الطريق المستقيم، وهو الهداية.
العلم في رسالات الأنبياء:
وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بهذا العلم إلا لهداية البشرية إلى الطريق المستقيم، الذي تسير عليه إلى ربها – سبحانه وتعالى -، ولا يخفى أنه بعد رسالة المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام – فيما بينها وبين بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – فترة طويلة اندرست فيها آثار الرسالات السماوية، وضلت البشرية، وحرفت الكتب سواء التوراة والإنجيل، فغيرت وبدلت؛ فصارت البشرية في ظلام دامس، وفي جهالة جهلاء، وضلالة عمياء، لا يدرون أين يسيرون، تخبطهم شياطين الأنس والجن يمينا وشمالا، تأخذهم الأهواء والنزعات، فصارت البشرية تسير في متاهة لانقطاع العلم الذي جاءت به الرسل، وانتشار الجهل والأهواء.
رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – والعلم:
بعثته رحمة وهدى:
وفي هذا الجو المظلم رحم الله البشرية، و«نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»(2)، كانوا على الدين الصحيح ثم انقرضوا قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فكانت البشرية بحاجة إلى رسول، وإلى كتاب، يهديها في تخبطاتها وفي ظلماتها، فرحم الله البشرية وبعث نبيه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فبصَّر به من العمى، وهدى به من الضلالة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، لمن أراد الله هدايته، واستجاب له ولدعوته، وقامت الحجة على من خالفه، وبقي في جهله وطغيانه، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: «جعلت الذلة والصغار على من خالف أمري»(3).
فبعث الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالهدى ودين الحق، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، والهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، لأنه لا عمل بدون علم، ولا علم بدون عمل، فلا بد منهما جميعا؛ وهذا هو الذي بعث الله – سبحانه وتعالى – به رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
بعثته نعمة:
وذكَّر الله المسلمين بهذه النعمة، فقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الجمعة: 2]، أي: وإن كانوا في فترة الجاهلية في ضلال، غير يسير، وإنما هو ضلال مبين، أي: ضلال مستحكم، واضح الظلمة، لأنه لا نور إلا بالوحي، فالبشرية لا تهتدي إلا بالوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى، ولا تهتدي باتباع الأهواء، أو ما تستحسنه العقول أو العادات أو التقاليد أو الأنظمة البشرية أو القوانين الوضعية، كل هذا هلاك؛ لأنه عن جهل، ومبني على الظنون والأوهام والأهواء.
أما الوحي المنزل فإنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
جهاد النبي – صلى الله عليه وسلم – في الدعوة:
قام النبي – صلى الله عليه وسلم – بما بعثه به ربه فدعى الناس، وواجه البشرية وهو فرد واحد، وتحمل أعباء الرسالة، وقام بمفرده – صلى الله عليه وسلم – في أول البعثة عملاً بقول ربه له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر: 1 – 7]، فقام – صلى الله عليه وسلم – يدعو الناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، يدعوهم إلى كتاب الله – عز وجل – وإلى ما أوحاه الله إليه من السنة، كل هذا لصالحهم ولهدايتهم، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [إبراهيم: 1، 2]، {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]، فقام يدعو الناس صابرا محتسبا متحملا ما يلقاه في طريق الدعوة من الأذى والاعتراضات واللوم والتوبيخ والتهديد، لا يخاف في الله لومة لائم، والله جل وعلا يقول له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94، 95].
المسلمون الأوائل والدعوة:
ثم انضم إليه في أول الأمر الأفراد من المسلمين من الرجال والنساء، انضموا إليه على خفية وسرية تامة، خوفًا من المشركين، ثم ما زال المسلمون ينضمون إليه – صلى الله عليه وسلم -، ويؤمنون به، حتى كثروا، ثم أمر – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة إلى المدينة حيث وجد الأنصار، فانضم المهاجرون إلى الأنصار مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقامت الدعوة، وأُذن للمسلمين في الجهاد في سبيل الله، ولكن هذا بعد عناء ومشقة وصبر ومصابرة منه – صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، هذا هو محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهذا مثلهم في التوراة والإنجيل، أي: صفتهم في التوراة، وصفتهم في الإنجيل.
الخلفاء الراشدون والدعوة:
وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد أن أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، قال – سبحانه وتعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقام بالأمر من بعده خلفاؤه الراشدون، وصحابته الأكرمون، فواصلوا سيرته – صلى الله عليه وسلم – في الدعوة والجهاد، حتى ظهر دين الله في المشارق والمغارب، وبلغ هذا الدين مبلغ الليل والنهار، وسقطت دول كبرى وانضمت إلى راية الإسلام، فسقطت دولة الفرس ودولة الروم بممالكها وقواتها وجنودها ورعاياها، ودخلوا تحت راية الإسلام إما مؤمنين به، وإما معاهدين وذميين ومستأمنين، فصارت السيطرة والسلطة لهذا الدين، وتحقق قول الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، فظهر دين الله على الدين كله.
جهود العلماء وفضلهم:
وقام بالعلم والدعوة العلماء من بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم -، يدعون الناس ويعلمونهم ويرشدونهم ويبصرونهم، فهم ورثة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكل عالم يدعو إلى الله فإنه من ورثة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهو خليفة للرسول – صلى الله عليه وسلم – في العلم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وكفاهم بذلك شرفًا، يدعون إلى دين الله، ويجددون الدين، وينفون عنه غلو الغالين، وانتحال المبطلين، ويبينونه للناس كما أنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو دور العلماء.
العلماء ينيرون الحياة للناس:
فالبشرية دائما بحاجة إلى العلم والعلماء، فإذا لم يكن هناك علماء في بعض البلاد فإن فإنها تكون في جهل، وتتسارع إليها الأهواء والشهوات والشبهات والبدع والخرافات، ولا يكفي الإنسان أن يكون عابدًا ورعًا تقيًّا من غير علم، فهذا وإن صلح في نفسه وسلم من البدع والمحدثات واستقام في نفسه فإنه لا ينفع غيره، وإنما الذي ينفع نفسه وينفع غيره هو العالم الذي يعمل بعلمه، ويدعو إلى الله، ويُعلّم الناس الخير، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»(4)، فالعابد مثل الكوكب فيه نور قدر نفسه، وأما القمر ومثله العالم ففيه نور له ونور ينير به لغيره، مثل القمر ينير لنفسه وينير في الكون.
العلماء باب للتوبة:
ومما جاء في فضل العالم على العابد ما حصل في بني إسرائيل، عن رجل قتل تسعًا وتسعين نفسا ظلمًا وعدوانًا، ثم إنه ندم وأراد أن يتوب من هذه الجرائم، فذهب إلى عابد فسأله أنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فاستعظم العابد ذنبه لجهله بالدين؛ لأنه ليس عنده علم، فقال له: لا ليس لك توبة. فغضب عليه الرجل وقتله وكمل به المائة، ثم ذهب إلى أحد العلماء، فقال له إنه قتل مائةَ نفس، فهل له من توبة؟ قال: «نعم ومن يحول بينك وبين التوبة ولكنك بأرض سوء فاذهب إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوما أو فيها أو أن فيها رجالا يعبدون الله فاعبد الله معهم»، فخرج الرجل تائبًا ومات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة (5)، فنجى من عذاب الله بسبب فتوى هذا العالم المستنير بالعلم، فهذا فرق ما بين العالم والعابد الذي ليس عنده علم.
متطلبات العلم:
والعلم لا يحصل عفوًا، بل لا يحصل إلا بالتعلم ، والصبر على التعلم لا يحصل عفوًا بدون تعلم، فليس الأمر كما تقول الصوفية: (إن الإنسان يجتهد في العبادة والذكر، فيفتح عليه بالعلم، بدون أنه يتعلم)، فهذا إنما يفتح عليه الشيطان ويزين له عمله، فلا بد من العلم والعلم، والتعلم يحتاج إلى أمور:
أولا: يحتاج إلى علماء:
فأنت لا تأخذ العلم عمّن هبَّ ودبَّ، فلا تأخذ العلم إلا عن العلماء المعروفين به، وهذا أصل من أصول التعلم، فتختار عالمًا من العلماء المعروفين بالعلم والعمل الصالح، فتأخذ العلم عنه، لا تأخذ العلم عن نفسك أو عن القراءة في الكتب أو سماع الأشرطة فقط، ثم تحسب أنك عالم؛ فليس هذا هو التعلم، بل ضرره أكثر من نفعه إن كان فيه نفعٌ.
فالعلم إنما يؤخذ عن العلماء بالتلقي، ولو أدى هذا إلى مشقة، وإلى صبر، وإلى سفر، وإلى سهر، وإلى طول مدة؛ وقد قال الإمام الشافعي – رحمه الله – :
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل طول حياته (6)
وأنت لا يمكنك أن تقرأ في القرآن أو في السنة، ثم تقول: الحكم كذا وكذا؛ فليس كل من يقرأ في النصوص يكون قد فهمها الصحيح، ففهم النصوص له أصول وقواعد وضوابط، وكما قيل: « من لم يتقن الأصول؛ حُرم الوصول»(7).
وكم ضل من الذين اكتفوا بفهمهم دون اللجوء للعلماء، فالخوارج لما انفصلوا عن علماء الصحابة وانعزلوا على أنفسهم واقتصروا على فهمهم، كانت النتيجة أن الإسلام لا يزال يعاني من هذه الفئة المارقة؛ لأنها اعتمدت على فهمها، وانفصلت عن العلماء واحتقرتهم، واستقلت بنفسها؛ فصارت النتيجة ما تقرأون وما تسمعون وما ترون الآن من ضرر المتعالمين واحتقارهم للعلماء وزهدهم في طلب العلم.
ثانيا: لا بد من قراءة الكتب الأصيلة في العلم:
فليس القصد هو قراءة كل كتاب، بل لا بد أن تنتقى الكتب المفيدة والمنظمة، التي تترقى بطالب العلم شيئًا فشيئًا، من المختصرات إلى المتوسطات إلى المطولات، أما من يأخذ العلم من الكتب المطولة وكتب موسوعات الخلاف وهو مبتدئ، فهذا يضل ولا يهتدي إلى شيء ويتحير، فلا بد أنك تمشي مع العلم شيئًا فشيئًا؛ ولهذا اهتم العلماء – رحمهم الله – بعمل المختصرات في الفنون، وراعوا فيها أن تكون منضبطة ومقعدة على القواعد الصحيحة، سواءً كانت نثرًا أو نظمًا.
ثالثا: الاستيعاب والشمول:
فالعلم لا يؤخذ بعضه دون بعض، وإنما يأخذ طالب العلم من كل فنٍّ يستفيد منه ويعينه على الوصول إلى النتيجة، فلا يقتصر – مثلا – على قراءة كتب الفقه، أو قراءة كتب التفسير، أو قراءة كتب الحديث، أو قراءة كتب اللغة، أو قراءة المصطلح، أو قراءة أصول الفقه، بل لا بد أن يأخذ من كل فنٍّ بمختصر يحفظه، ويقرأه على العلماء ليوضحوه ويشرحوه ويبينوا له ما أشكل؛ فلا بد أن تأخذ مختصرًا في علم التفسير، ومختصرًا في علم الحديث، ومختصرًا في علم الفقه، ومختصرًا في علم النحو، ومختصرًا في البلاغة والبيان؛ لأن هذه المختصرات يتصل بعضها ببعض، ويخدم بعضها بعضًا، فلا يكون هناك طالب علم بدون علم نحو، ولا طالب علم بدون علم الفرائض والمواريث، ولا طالب علم بدون علم التفسير، ولا طالب علم بدون علم الحديث، كذلك فإن لا بد في علمي الحديث والتفسير من دراسة مصطلحاتهما وأصولهما.
رابعا: تلقي العلم في مجالسه:
فالعلم لا يؤخذ بالتجمعات والاستراحات والأسفار، وإنما يؤخذ العلم من الأمكنة التي فيها العلماء المدرسون، إما في الدراسات النظامية: كالمدارس، والمعاهد، والكليات، التي بها دراسة نظامية، من خلال المقررات المتدرجة من المختصرات إلى المطولات إلى الموسوعات، ومن المتون إلى الشروح، وهي طريقة علمية صحيحة تمشي من أول سنة في الابتدائي، إلى آخر سنة في الدراسات العليا، فلا يفوتك منها شيء، وإن فاتك منها شيء فإنه يبقى ثلمة في معلوماتك ونقصًا وانقطاعًا في علمك، لا بد أن تصبر وأن تواصل، وألا يفوت عليك شيء إلا وقد فهمته.
وإن لم تتمكن من تلقي العلم في مثل هذه المؤسسات فيمكن أن يكون التعلم على العلماء في المساجد، وهذا هو الأصل، فقد كان العلم يؤخذ في المساجد التي هي بيوت الله عز وجل، وأعظمها مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكان مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حياته هو المدرسة العظيمة التي خرجت للعالم العلماء والقواد والمجاهدين، وبقية المساجد وبيوت الله لها ما للمسجد النبوي من فائدة في الاجتماع بها، وتدارس العلم فيها، والتلاقي فيها، كما قال كما قال الله جل وعلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه} [النور: 36]، وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»(8).
فلا بد من هذه الأمكنة المخصصة لطلب العلم، أما الأمكنة المغمورة والمجهولة والخفية المنعزلة عن العلماء وعن جماعة المسلمين فهذه تكون منظماتٍ سريةً، ينتج منها الشرور على الأمة، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: «إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة»(9)، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يأت بالعلم ليكون سريا، وإنما ليكون علنيا في المساجد أو في المدارس المعدة لذلك؛ أما الأمكنة الخفية والمجهولة فهذه إنما هي مواقع للفتن؛ نسأل الله العافية.
فعلى طالب العلم إذا أراد أن يتعلم أن يأتي إلى مواطن العلم، ولا يذهب إلى المواطن المشبوهة او التجمعات السرية؛ لأن هؤلاء لو كانوا على حقٍّ لما اختفوا، ولأظهروا علمهم للناس حتى يستفيدوا، ويستفيد الناس منهم، وإنما يكون السر في المؤامرات والأشياء الكيدية، أما العلم النبوي فإنه أمر علني واضح، والناس بحاجة إليه؛ فلا يكتم، ولا يخفى في مكان خاص في المساجد، فالمساجد ينتابها العوام والمتعلمون والعلماء، والكبار والصغار، وكلٌّ يستفيد من هذا العلم الذي يسمعه، فهذا من طرق العلم، والذي يسير على هذا الطريق ينطبق عليه قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة»(10).
خامسا: الارتحال في طلب العلم:
وقد يكون طريق التعلم بالسفر والرحلات لطلب العلم على العلماء، كما كان سلف هذه الأمة يرحلون إلى العلماء من عالم إلى عالم، ويأخذون عنهم العلم، ويصبرون على الغربة، ويصبرون على الفقر، ويصبرون على السهر، ويصبرون على أمور كثيرة في طلب العلم، فهو من الجهاد في سبيل الله.
وحسبك أن موسى – عليه الصلاة والسلام – كليم الله لما أخبره ربه أن هناك عبدًا من عباده عنده علم ليس عند موسى – عليه السلام – سافر موسى – عليه السلام -، وتحمل المشاق ليلتقي بهذا العبد الذي عنده علم ليس عند موسى، حتى لقيه، وقد ذكر الله هذه القصة في سورة الكهف، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]، والقصة بتمامها رحلة في طلب العلم من كليم الله موسى – عليه السلام -؛ ليزداد علمًا على علمه.
والله – جل وعلا – قال لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، ويقول – جل وعلا -: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
ولا تقتصر على رحلة معينة تظن أنك وصلت إلى النهاية، فالعلم بحر لا ساحل له، ولستَ أعلم الناس، بل هناك من هو أعلم منك؛ والله جل وعلا يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فإذا أدركت معنى هذه الآية، وتأكدت أن ما عندك من العلم هو قليل، وأنك بحاجة إلى الزيادة؛ فإنك تسعى في طلب العلم والتزود، وحينها تكون ممن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا.
إما إذا ظننت أنك وصلت إلى النهاية، وأنك في غنىٍ عن المواصلة في طلب العلم؛ فحينئذ تخسر خسارةً كبيرةً، ويفوتك شيء كثير، فتبقى بعيدا عن النهاية؛ فالعالم لا يشبع من العلم أبدًا، وهو دائما يبحث عن العلم؛ ليزيد ما عنده، ويشعر بالنقص دائمًا، ولا يشعر بالكمال، أو أنه أعلم من غيره.
ويجب على طالب العلم ألا يشعر بالاكتفاء، وأن يطلب العلم مهما استطاع، فكلما تمكن أن يتزود فليتزود؛ سافر رجلٌ من الصحابة – رضي الله عنه – من المدينة إلى مصر على الراحلة، لأجل أن يسمع حديثًا واحدًا عند صحابيٍّ في مصر، سمع أن هذا الصحابيَّ الذي في مصر عنده حديثٌ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فذهب إلى مصر ليسمع هذا الحديث، ويرويه عن هذا الصحابي، فسافر من المدينة إلى مصر على الراحلة ذهابًا وإيابًا لتحصيل حديث واحد، مما يدل على أن هذا العلم لا يأتي عفوًا، ولا يأتي بدون كدٍّ وتعبٍ.
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»(11).
سادسا: تبليغ العلم:
إن هذا العلم للجميع، فلا يكون للعالم خاصةً، فمن علِم علما وجب عليه أن يبلغه للناس، قال – صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية»(12)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «ضر الله امرأً سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع»(13).
فالعلم مشترك، فإذا علمت شيئًا منه فعليك أن تبلغه لغيرك، هذه هي وظيفة العالم، أنه ينفع نفسه وينفع غيره، كما شبهه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقمر الذي ينير الكون للمسافرين وللناس، فوجود العالم في البلد أو في الإقليم أو في أي مكان هو نور من الله – سبحانه وتعالى -، إذا كان هذا العالم قائمًا بالعلم. أما إذا كان مخزنًا لهذا العلم لا ينتفع به ولا ينفع به غيره، فالكتاب الذي في الرف خير من هذا العالم المنطوي، الذي لا ينشر علمه.
وقد جاء في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»(14)، فهذا العلم ينفع صاحبَه حيًّا وميتًا، بالرواية أو في الكتب التي ألفها، ينفعه إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
وأنتم تعلمون أن الأئمة ماتوا من زمن بعيد، لكن كتبهم وعلمهم موجود ينتفع الناس به، فالأجر يجري لهم في قبورهم على هذا العلم الذي ورَّثوه وتعبوا في تحصيله، وورثوه للناس ينتفعون به.
فلا حياة للناس إلا بالعلم، والعلم لا يحصل إلا بالتعلم، والتعلم لا يحصل إلا بصبر، ويحتاج لتتبع المراحل التي نظمها أهل العلم، وساروا عليها، وهي كمراحل الطريق شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى مبلغ من العلم ينفعك الله به، وينفع به غيرك.
الجهل والمتعالمون:
نحن الآن مبتلون بالتعالم والمتعالمين، الذين أخذوا العلم من غير أصوله، ومن غير مصادره، فكانوا بلاءً على أنفسهم، وبلاءً على المجتمع؛ والجهال أحسن حالا منهم، لأن هؤلاء المتعالمين جهلهم يتعدى إلى غيرهم، وهناك فرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب، فالجاهل البسيط يعلم أنه جاهل فيتعلم، أما الجاهل المركب فهذا يرى أنه عالم فلا يتعلم.
والجهل المركب والعياذ بالله أشد، والعلم كما قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في النونية:
والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني (15)
فلا بد من أن يكون هناك عالم رباني، يربي الناس على الخير والعلم النافع، ولا بد أن يكون العلم مستندًا إلى نص من القرآن، أو نص من سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ هذا هو الذي يخرج به الإنسان من الجهل القاتل.
فعلى المسلمين اليوم شبابًا وشيبًا، وعامة ومتعلمين، أن يتنبهوا لهذا الأمر، وألا يزهدوا في طلب العلم في غمرة المدنية المعاصرة، وفي غمرة الفتن والشرور، فكلما اشتدت الفتن اشتدت الحاجة إلى العلم؛ لأنه لا يخرج من هذه الفتن إلا العلم، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]، فالعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان، ونعني بالعلماء الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، الذي هو الهدى ودين الحق، الذين بعث الله بهما رسوله محمدًا – صلى الله عليه وسلم -.
الخاتمة:
هذه جمل من الكلام على هذا الباب العظيم، ولا يتسع الوقت للبسط في كل، ولكن هناك كتب مؤلفة ورسائل في آداب طالب العلم والمتعلم، وآداب المعلم، فعلينا أن نقرأ وأن ننفذها ونطبقها في مسيرة طلبنا للعلم؛ لأجل أن نكون في طلبنا للعلم على بصيرة، وحتى نصل إلى النتيجة الطيبة المرجوة، أما إذا ضيعنا هذه الطريقة الصحيحة لطلب العلم وأخذنا بالطرق الأخرى، فإننا نَضل الطريق ونُضل غيرَنا؛ والمصيبة أن الإنسان المتعالم والجاهل المركب لا يقتصر ضررُه على نفسه، بل يتعدى ضرره إلى غيره، ويظنه الناس عالمًا فيقتدون به، ويسمعون كلامه، فيسير بهم إلى غاية ذميمة.
نسأل الله العافية، فالعلم له أصول، وله طرق، وله بدايات ونهايات، وله وسائل وغايات، وله نتائج مباركات؛ لكن يحتاج هذا منَّا إلى أن نتعلم طريق العلم والتعلم قبل أن نشرع في التعلم، نسأل الله – عز وجل – أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

****
 
رد: أصول تلقي العلم وضوابطه

العلم نور
بارك الله فيك اخي الصبر
احترامي وتقديري لك
 

اعضاء يشاهدون الموضوع (المجموع: 0, الاعضاء: 0, زوار: 0)

من قرأ الموضوع (مجموع الاعضاء: 1)

اعضاء قاموا بالرد في الموضوع (مجموع الاعضاء: 2)

عودة
أعلى