تاليف الكاتب التوحدي ديتمار تسوللر
لطيف الحبيب / برلين 29.12.2011
الاضطرابات التوحدية لم تتوضح معالمها بعد رغم جهد الدراسات التي يبذلها عدد كبير من العلماء والباحثين لسبر غور هذه الظاهرة التي تكاد تكون كونية أخذة بالانتشار كوباء , وحتى الاجتهادات والتكهنات التي بدات منذ 1911 على يد العالم (بلوليرايغون ) لتشخيص هذه الاضطرابات الغريبة كانت قاصرة عن تحديد الملامح والإعراض التوحدية. في الأربعينات على يد العالم الأمريكي كانر وبعده العالم النمساوي اشبيرغر شخصت أولى أعراض وملامح هده الاضطرابات عبر سلسلة من البحوث الميدانية والاستبيانات العائلية فالتوحد اضطراب جذري في الفهم والإدراك والعلاقات الاجتماعية والتواصل اللغوي . بعد اكتشاف طريقة التواصل الميسر في أواخر السبعينات واستخدامها بنجاح في التخاطب مع التوحدي إضافة الى وسائل التواصل الأخرى لغوية أو غير لغوية ,تيسرت له الكتابة التي عبرها تم فتح ثغرة في قوقعة التوحدي العملاقة , وتمكنا أخيرا من التمعن في دواخل التوحدي ومعرفة بعض أشكال سلوكه وتصرفه , انكب العلماء والباحثين على دراسة كل صفحة يكتبها التوحدي .
ففي السنوات الأخيرة صدر عدد لا باس به من أدبيات التوحد, يكتبها التوحدي عن ذاته في السيرة والذكريات والقص والشعر , وضحت مشاعرهم وأحاسيسهم , اضطراباتهم ,كيف تبدأ وتنتهي ,عبروا عن علاقاتهم الاجتماعية وأسباب ودوافع قصورها . أصبحت هذه الكتب مصادر ومراجع مهمة جدا ومعين لا ينضب ,ادي الى تطور طرق وأساليب العمل التربوي لتوجيه التوحدي في مدارس إعادة تأهيل المعوقين ,والكشف عن مواد تربوية جديدة تستخدم في الدروس ,وطرق علاج طبيعية متعددة .
أهم ما صدر من هذه الكتب كتاب بعنوان رئيسي ( التوحد و لغة الجسد ).وعنوان ثانوي. اضطرابات توظيف الإشارة بين الرأس والجسد. للتوحدي ( ديتمار تسوللر), الذي يصف ويحلل وفي إطار علمي دقيق ,العطب الذي يعانيه في بعض وظائف ومهارات جسده المتخصصة , ويستعرض دقائق التفاصيل المسببة لفشل وعطب الوظائف الجسدية ,التي لا يمكن أن تحدث عند الأطفال الغير توحديين , والكتاب من الطروحات المهمة لفهم عملية توجيه وقيادة الجسد وتعابيره , ووقائع سربت إلينا من جسد أنهكه الاضطراب التوحدي . كتاب تسوللر نداء الى كل توحدي يرشده الى المساعدة الهائلة التي تقدمها طريقة التواصل الميسر الخطابية التي تحد من الاضطراب في الادراك , وتعيد بعض قدرة وكفاءة أعضاء الجسد , وتمكنها من التحكم بالإشارة الى الحروف والصور ,لانجاز بعض الأفعال الاعتيادية , التي هي عصية على التوحدي مثل الأكل والشرب وتنظيم بعض حاجياته . أوضح تسوللر طبيعة الصراع بين الرأس والجسد , بين الأمر والتنفيذ عند التوحدي. يتحدث من تجارب عالمه الداخلي عن عطب أجزاء من جسده الكامن فعلها ,والمضطربة وظائفها , كيف يسمع ومشكلة الإصغاء ,كيف يكتب كيف يتعلم النظر ويحل إشكالات الادراك البصري ,وتحدث ايضا عن اضطراب علاقاته الاجتماعية وتأثير الأجواء المحيطة . يقول تسوللر :-
(عندما يرغب المرء بكتابة حرف (أ) يقوم دماغه باعداد صورة الحرف في ثناياه ويوعز لليد بخط الحرف على الورق أو في مكان أخر لكن يدي تلجم عن تنفيذ رغبتي ,وترفض تنفيذ أوامر الدماغ الصادرة ويقوم جسمي بحركات لا تمت بصلة لرغبتي في كتابة الحرف . إني اشك فيما اسمع وارى واشم, أقول بعض الأحيان انه من غير الطبيعي أن أعيش في هذا الخراب الذي يتفاقم يوما بعد يوم. سلوكي التوحدي نتيجة عطب ولادي في الدماغ أعاق نموه الطبيعي منذ الطفولة , اضطرابات الوعي والإدراك في جميع الحواس أعاقت تطوري وإحالة حياتي الى صراع يومي حاد بين راسي وحسدي ). ديتمار تسوللر مصاب باضطرابات التوحد , اضطراب الادراك وما يعقبه من فعل ليس له القدرة على توجيهه
كتب التوحدي ديتمارتسوللر قصة (حديقة أمي) أوجز فيها الصراع الحاد بين راس وجسد التوحدي
{ انشغلت أمي بتعليق الغسيل في حديقة منزلنا . فجأة اصطفق الباب مخلفا أمي في الحديقة . دون جدوى حاولت الدخول . كنت مضطجعا على فراشي في الطابق الثاني, مسترخيا في داخلي واحلم بي . بدأ صوت نداء يتضح شيئا فشيئا , يصرخ بأسمى " ديتمار انزل وافتح الباب , نسيت المفتاح في الداخل " , تردد الصوت عدة مرات . بدأ يضعف يخفت ويتلاشى , ثم يتكرر بأشكال مختلفة . سمعت همس أمي وتوسلها اليائس. رد فعل عاطفي في داخلي " أمي المسكينة " اعتقدت هكذا, لم أقم بفعل أي شيء، مرت فترة قبل أن أستطيع النهوض لهبوط السلم. في باحة الدار نسيت كل شيء . نسيت ماذا كان علي فعله . قادتني قدماي إلى غرفة السكن ، إلى مكاني المحبب , جلست . فجأة اشتد طرق عنيف على زجاج النافذة, أيقظني من حلم أبعدني عن منزلنا. تطلعت إلى النافذة، رأيت وجه أمي المحتقن حزنا. لاحظت حركة شفتيها ، وصر في أذني صوت غريب ، ميزت اسمي " ديتمار أرجوك مرة أخرى , افتح الباب !" , تضرعت إلى بهدوء حزين " , "إني اعرف تماما انك قادر على فتح الباب " , لم افعل شيئا. كنت مشغولا في ترتيب ملامح وجهها ، وفرز مقاطع صوتها. إعادة تركيب صورة أمي تطلب مني وقتا طويلا . أكملت استيعاب الحدث , وعدت إلى واجبي الأول . انطلقت نحو الباب وفتحتها . كانت أمي غاضبة جدا . لم افهم غضبها . حدقت طويلا في داخلي لفهم هذا الغضب . ماذا حدث ؟ وماذا جرى لامي ؟ , أجهدني فهم عواطفها كثيرا . تتصاعد أنفاسي بسرعة . لم أرد إيلامها وتركها خارج الباب . فهم المشاعر والعواطف ، وإيضاحها لنفسي يشل حركة فعلى وتصرفي . انطوي انكص إلى داخلي , حين ابدأ بالتركيز على شيء ما .
أود أن أكمل بعض التفاصيل. عندما كنت مسترخيا على الكنبة, قبل أن أرى وجه أمي الحزين خلال النافذة، واسمع الطرق على زجاج النافذة, كنت مستعدا للقيام بفعل فتح الباب. كان هدفي من النزول إلى باحة الدار هو أن افتح الباب . احتاج إلى وقت طويل للابتداء . كنت أستطيع إنجاز واجبي الذي هممت به, لكن الطرق على النافذة شغلني, وأصبح من المستحيل تنفيذ مرامي.}
ملاحظة : كنت قد نشرت هذا الموضوع في صحيفة" الشرق الاوسط " منذ فترة وانشره الان لتعم الفائدة الاخوة قراء الموقع
لطيف الحبيب
تعليق