بيرغرسيلين
أول شاعر توحدي في العالم
مطفل أجلس أدمغة الكتاب والشعراء والعلماء على طاولة انطوائه
لطيف الحبيب / برلين
12.1.2012
{ بيرغر سيلين هو الطفل الأول للمحامي البرليني دانكويرد وأستاذة علم النفس السيدة آنا ماريا سيلين . ولد في برلين عام 1973. في عامه الثاني توقف نموه العقلي . بعد أسبوعين توقف عن الكلام , ورفض كل علاقة مع والديه , و لم يعد يلعب مثل الأطفال الآخرين , وإنما انشغل بألعاب غريبة مثيرة للدهشة , واستمر لساعات طويلة وكأنه منوم مغناطيسيا , يترك الكرات الزجاجية أو حبات الرمل تنساب بين يديه بشكل غريب ملفت للنظر . وأخذ يتصفح الكتب التي يأخذها من الرفوف لفترة طويلة أيضا , كما كان يطوح برأسه وجذعه , ويحافظ على هذا الوضع لساعات عدة , دون أن يشغله شيئا ما كانت حيرة الأطباء والمعالجين اكبر من حيرة أهله . التحاليل الطبية الأولية تشير إلى تخلف عقلي نتيجة التهاب في الدماغ . ثم انه أصيب قبل خرسه بسلسلة من الالتهابات الحاد في الإذن الوسطى . وعند بلوغه السنة الرابعة والنصف من عمره , أشار التقرير الطبي إلى إصابته ( بالتوحد المبكر ) , الإعاقة الدائمة التي يعتقد أن لا شفاء منها . في سن الثامنة نطق فجأة بعض الجمل, لكنه صمت مرة أخرى. يتقدم العمر ب(بيرغر) حتى يصل إلى مرحلة الصبا , إما قدراته العقلية فتتوقف عن النمو, وتبقى متخلفة عن عمره, ولا تقارن إلا بقدرات طفل صغير . كان طوال اليوم يذهب إلى مؤسسة تربوية خاصة لإعاقة التوحد , تعود إلى (جمعية مساعدة الطفل ألتوحدي ) . تعلم هناك ارتداء ملابسه وخلعها وحيدا , إضافة إلى الاستحمام وإنجاز بعض الأعمال المنزلية , لكن تطوره لم يتجاوز حدود الطفولة . انطوى الصبي على نفسه وانسجم مع عالمه الخاص بتلقائية, ودون أن يشعر به احد. إثناء مرحلة المراهقة تفاقمت مشاكله , وتوترت علاقته مع عائلته و أصبح سلوكه استحواذيا , وحركته محمومة , فهو دائم اللهاث , وتنتابه نوبات غضب وصراخ , ويلجأ إلى ضرب وعض نفسه إلى حد أسالت دمه . أوصل تصرفه هذه أهله إلى حزن و يأس مطبق . انعزلت العائلة تماما عن الآخرين . لم يكن (بيرغر) يتمتع بأي فهم معرفي , وبدا إن مستقبله معتم بلا أمل . وبعد أن اجتاز مرحلة الطفولة والصبا الشاحبة والباهتة , حدث عام 1990 شيء غير حياة عائلة بيرغر سيلين . خلال محاضرات ألقتها باحثة اللغة الأمريكية " انغريد شوبرت " في نيويورك , تعرف أهل ألتوحدي بيرغر على طريقة التواصل المبسط والمسند Facilitated Communication” F.C ” , الطريقة التي تساعد المصابين باضطراب لغوي أو حركي أو نفسي على تجاوز إعاقة التواصل مع محيطهم ,وتسهل عملية التواصل الخطابي معه , من خلال الإشارة إلى الأشياء أو الحروف الكتابية .
في 27- 8 – 1990 جلست السيدة سيلين مع ابنها بيرغر إمام جهاز الكمبيوتر , تحدوها الآمال بان يتحقق شيء ما. بعد جهد ومعاناة في جلسة الكتابة الأولى على الكمبيوتر , من رفض للإسناد إلى نوبات الهياج والصراخ , سيطر بيرغر على لغة الكتابة . تدفقت موجات من المشاعر, وانعكس ما يمور بنفسه على شاشة الكمبيوتر . كتب يقول
" انه يعرف القراءة والكتابة منذ سن الخامسة , وقد سجل في ذهنه كل ما كان يحدث من حوله خلال هذه السنين" . كان يعرف كل دول العالم وعواصمها و الأرقام و مطلعا على الكثير من الفلسفات . يعرف الكثير عن إعاقته التوحدية والبحوث الجارية عنها , ويملك معرفة ضخمة عن عدد هائل من الكتاب . مئات الكتب التي كان يتصفحها كان في الحقيقة يقرؤها ويخزن مضامينها.( يمتاز ألتوحدي بذاكرة تصويرية ) . كان يختفي هناك خلف واجهة الجنون والصراخ واللهاث والتأرجح والتحدب, إنسان حساس خارق الذكاء , واسع الثقافة والإطلاع . قورنت لغته في الصحافة بلغة هولدرن وارتواد , ولغة كوستاف شفاب ورينلد غوتس و انغبورغ باخمان . الصحف والمجلات الألمانية أطلقت عليه وصف " أول شاعر توحدي في العالم " . كما صور فلم وثائقي عن حياته الخاصة . احتوى كتاب بيرغر الأول الذي صدر(1993 ) تحت عنوان ( لا أريد ان أكون شيئا البتة في داخلي , رسائل من سجن توحدي) على مجموعة من كتاباته حول وضعه ورؤيته لعالم التوحد ومعاناته , والتي امتدت من عام 1990 إلى نهاية عام 1992 . وبدأاهتمام القراء ينصب عندئذ على نصوصه الأدبية وليس على صراعه ضد إعاقته التوحدية .
لم يتخلص بيرغر من أعاقته التوحدية , لكنه أنجز خطوات كبيرة باتجاه الاعتماد على النفس ,و التعبير عن فرحه ويأسه الذي تحول نصوصا نثرية وشعرية ضمها كتابه الثاني , الذي, صدر عام 1995 .
أدرك بيرغر ان عدم القدرة على توجيه الحركة أو قيادة جزء من الجسم لا يعني ان هناك إعاقة عقلية أو تخلفا عقليا , وإنما هو مجرد عطب في جزء من خلايا الدماغ المسيطرة على توجيه الحركة . وقد أكد بيرغر سيلين هذه الحقيقة في كتابه المذكور في الصفحة " 162" بعد أن قرأ معظم البحوث التي كتبت عن التوحد.
يقول بيرغر ألتوحدي
لا أستطيع أن أتعلم حرية التصرف.
عطب بالغ في جملتي العصبية .
جهودي ستذهب سدى
وعلى من هو مثلي أن يستسلم .
لا أقوى على شيء .
ارغب في الهدؤ والسكينة فقط .
هل أصبح داخلي خاويا حتى من كلمة واحدة ؟
سأحاول غدا مرة أخرى.
استطاع بيرغر سيلين بمساعدة طريقة التواصل المسند F.C)) ان ينفتح على المجتمع , وان يخترق حواجزه التوحدية. فتعلمه لطريقة للتواصل منحه اعترافا اجتماعيا . تلقفه المجتمع وبدأ محيطه يزداد اتساعا ورحابة , ووعيه عمقا وغنى. اذ استطاع أن يتواصل خطابيا مع محيطه , وان يعبر بوضوح عن أمانيه ورغباته, ويتكفل هو نفسه باتخاذ مايراه مناسبا من قرارات .
وبرغم القدر الهائل من الخراب الذي يتركه التوحد على قدرة الإدراك , وعلى إمكانية إقامة علاقات اجتماعية سليمة , استطاع بيرغر ان يقلل الآثار الوخيمة لهذا الخراب , و ان يفكر ويحلل مواقفه وحالاته المتباينة بطريقة واضحة وملفتة للنظر . لقد فتحت له الكتابة المباشرة أفاقا رحبة , وأنارت دواخله بالبهجة والغبطة . فأجمل لحظاته , هي تلك التي يجلس فيها إمام الكمبيوتر المحمول , مسنود الذراع من قبل أمه أو أبيه . وعادة ما يكتب بيرغر نصوصه مساء, ليدون فيها إحداث يومه المنصرم احتج الكثيرون لعدم قناعتهم ان بتحول الإعاقة التوحدية إلى ظاهرة إبداعية , وبالتالي لم تسلم نصوصه من التشكيك .
اما بيرغر نفسه فقد اخذ يتعايش مع إعاقته , وتطورت معرفته بها . لم تعد إخفاقاته تعيقه عن التقدم في عمله . ازداد جوعه للعلوم والمعارف . وبدأ يحقق اعترافا اكبر في صفوف المجتمع و يتحرك ضمن اطر المجتمع دون مساعدة خارجية , محاولا ان يعود نفسه على العيش مع اناس غير توحديين . استطاع ان يدرس الكيمياء والفيزياء واللغة الفرنسية والرياضيات , بمساعدة طريقة التواصل المسند F.C )) ومن خلال الكتابة على الكمبيوتر , إذ تكتب له الاسئلة ليجب عليها بيرغر كتابيا . حصل بيرغر سيلين والمخرج "كوبالا "على جائزة " أدولف غرم " على فيلم "سيرة حياة بيرغر سلين" عام 1995 .}
ماذا يكتب " بيرغر سيلين, حين يكتب نصه الأتي من أعمق أعماق نفسه ؟ هل يكتب شعرا أم نثرا ؟ هل نسمي ما يكتب أدبا ؟ نص كاتب معوق لا يجرأ النقاد على الاقتراب منه . انه نص مذهل , تبدعه ساحرات, أغلق بيرغر قفصه عليهن . حبيسات قلاع وقصور جميلة وأقبية مظلمة موحشة مرعبة كيما تعبر عن مشاعره وحواسه الداخلية . مئات من أدمغة الكتاب والشعراء والعلماء, أجلسهم على طاولة انطوائه , يقلب صفحات إبداعهم , يشدد الخناق عليهم , يتصاعد ضجيجهم ويتعالى صراخهم إلى اقصى خلية في دماغه. تزدحم رأسه بالحروف والكلمات والأفكار ,لا مخرج لها غير صراخه . يصدم رأسه بجدران غرفته ويشجه . يضرب فمه بقبضته إلى ان تدمى شفتاه . يعض راحته بحرقة مكلوم علها تخرج هذه الحروف وتلك الكلمات لتعبر عما تعج به رأسه من أفكار .
بيرغر يكتب ألان من عالم أخر . يكتب عن الم يصرخ في قلب شاعر "
نشر هذا الموضوع في صحيفة الشرق الاوسط اعيد نشره الاهميته ولفائدة قراء الموقع
لطيف الحبيب
تعليق