أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلام من

رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

البيروني
شهد له الناس في الشرق والغرب بعلمه وفضله، وأشاد الناس في كل مكان باكتشافاته ومؤلفاته، وحفر اسمه بحروف من نور على صفحات التاريخ !!
ولد (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني) في شهر ذي الحجة سنة 362هـ/ 3 من سبتمبر 973م، في إحدى ضواحي خوارزم، وهي مدينة (كاث) التي توجد مكانها حاليا بلدة صغيرة تابعة لجمهورية أوزبكستان، وكانت مدينة (خوارزم) مركزًا عظيمًا من مراكز الثقافة الإسلامية، ازدادت شهرتها بعد انهيار الخلافة الإسلامية في بغداد.
ونشأ (البيروني) في هذا الجو الذي يحث على طلب العلم ويدفع إلى التعلم، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث النبوي الشريف، وفي (بيرون) خالط أبو الريحان التجار الهنود واليونانيين وغيرهم، فتعرف على طباعهم، وتعلم لغتهم، فاتسع إدراكه وازدادت خبرته وتعمقت تجارته، التقى أبو الريحان بمعلم أعشاب استطاع أن يتعلم منه شيئًا عن تحضير النباتات الطبية، وأن يعرف أسماء النباتات، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بالعلوم الطبيعية.
وتمكن (أبو الريحان) من أن يتصل بأبي نصر منصور بن علي، ذلك العالم الذي يمت بصلة قرابة إلى العائلة المالكة بخوارزم، وكان عالمًا كبيرًا في الرياضيات
والفلك، فأطلعه على هندسة إقليدس، وفلك بطليموس، فأصبح العالم الشاب
أبو الريحان مؤهلاً لدراسة الفلك، كما اكتسب دراية كبيرة بالعلوم الهندسية والفلك والمثلثات من أبي الوفاء العالم الفلكي الشهير وصاحب مرصد بغداد.
اشتهر (البيروني) وذاع صيته حتى وصلت أخباره إلى أمير (خوارزم) فأعجب
به، وضمه إلى علماء قصره، وضمن له ما يكفيه للعيش عيشة كريمة ليتفرغ للعلم والاستنباط والاستكشاف، وفكر (أبو الريحان) في بناء مرصد فلكي، فعرض الأمر على الأمير، فرصد له ما يشاء من مال، وأحضر له جميع المستلزمات التي طلبها، ثم شرع (البيروني) مع أساتذته في بناء المرصد.
كان البيروني يجلس كل ليلة في مرصده، يتابع حركات الشمس والقمر والنجوم ويرسم على أوراقه خريطة لقبة السماء الزرقاء، يضع عليها مواقع المجرات والنجوم وأخذ كل يوم يكتشف الجديد في علم الفلك، وتغيرت الأحوال عندما رحلت العائلة المالكة في خوارزم والتي كانت عونًا له وسندًا، بعد أن جاءت العائلة المالكة الجديدة عائلة (مأمون بن محمد) فكان عليه أن يرحل هو الآخر من (خوارزم) فرحل عنها وظل يتنقل من بلد إلى بلد، وإذا سمع بعالم رحل إليه وأخذ العلم عنه.
وأخذ يكتب في أوراقه كل ملاحظاته عن المد والجزر في البحار، وعن حركات النجوم والأفلاك وغيرها مما يتعلق بعلم الطبيعة، وكان الملوك والأمراء يتنافسون في إكرام العلماء، ومن بينهم أمير (جرجان وطبرستان) (شمس المعالي قابوس) ذلك الأمير الذي شغله العلم، وامتلأ قصره بالعلماء، ولما علم ذلك الأمير بقصة أبي الريحان وكثرة ترحاله، شمله بعطفه ورعايته وأعطاه الأموال الكثيرة، حتى تفرغ للعلم واستطاع أن يكتب كتابه الشهير (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وقدم هذا الكتاب هدية إلى الأمير (قابوس) سنة 390هـ.
وكان أبو الريحان البيروني على اتصال بابن سينا الذي كان من أشهر علماء عصره وكثرت الرسائل بينهما في خدمة العلم، فأعجب به ابن سينا إعجابًا شديدًا واستمرت رسائلهما حوالي خمس سنوات يتبادلان الرأي حول قضايا
علمية كثيرة، ولـمَّا عُزِلَ قابوس عن الإمارة سنة 400هـ/1009م لم يجد
أبو الريحان البيروني إلا أن يعود إلى بلده (خوارزم) مرة أخرى.
وفي جرجان عاصمة الدولة الخوارزمية، لقى أبو الريحان كل التقدير من أمير البلاد أبو العباس مأمون بن مأمون، وأتيحت له الفرصة لأن يجتمع بكبار العلماء مثل
ابن سينا وغيره، وبدأ العالم الكبير (أبو الريحان البيروني) في إجراء بحوثه ودراساته الفلكية والجغرافية، وشرع هو وتلاميذه في إنشاء مرصد في القصر الملكي لرصد حركة الشمس والقمر والنجوم.
وفي حديقة القصر بنى نصف كرة من الحجارة والطين قطرها أربعة أمتار تقريبًا ووضع عليها صور البلدان كما تخيلها، ورسم على تلك البلدان خطوط الطول والعرض، كما اشتغل مع علماء المجمع في حساب مساحة الكرة الأرضية، لكن الحياة لا تستقر على حال، فقد قتل الأمير عاشق العلم، واستولي السلطان محمود الغزنوي على البلاد سنة 407هـ/1016م، فأخذ كل الذخائر العلمية التي تضمها مكتبة القصر، كما اصطحب معه العلماء، وكان من بينهم أبو الريحان البيروني، حيث استقر في القصر الملكي بغزنة (أفغانستان حاليًّا).
وفي قصر السلطان (محمود الغزنوي) التقى البيروني بعدد من الفلاسفة والأدباء المشهورين، وأتيحت له الفرصة أن يشهد غزوات السلطان التي قادها، وصحبه في أكثر من ثلاث عشرة غزوة، وكانت إقامة البيروني بغزنة من العوامل التي ساعدته على القيام بعدة رحلات علمية إلى الهند، وكان قصده من ذلك القيام بدراسة علمية دقيقة على الطبيعة لأحوال هذه البلاد، من حيث تاريخها وثقافتها وأديانها، ورأى البيروني أن الفرصة لن تتهيأ له إلا إذا درس اللغة السنسيكريتية (لغة الهند)؛ ففتحت له هذه الدراسة أبواب الثقافة الهندية من جميع نواحيها العلمية والدينية، ووضع كتابًا مهمًّا عن حضارة الهند وتاريخها، أسماه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل
أو مرذولة) ذكر فيه الجغرافيا الخاصة بالهند، كما ذكر لنا العقائد الدينية والمعارف العلمية عند الهنود، من رياضة وفلك وتاريخ وغيرها من علوم مختلفة.
وقد كتب البيروني أكثر من (146) كتابًا في علوم مختلفة، فقد كتب في الحساب وشرح الأرقام الهندسية شرحًا وافيًا، وهي الأرقام التي اتخذت أساسًا للأرقام العربية كما يعد الواضع الحقيقي للقواعد الأساسية لعلم الميكانيكا، وكانت له نظريات في استخراج الأوتار من الدائرة، واستطاع أن يبتكر معادلة لمعرفة محيط الأرض.
ويعد البيروني أبا الصيدلة العربية في العالم الإسلامي، فقد كتب عن الصيدلة كتبًا عديدة جعلته يحتل هذه المكانة المهمة في تاريخ الطب الإسلامي، وقد سجل البيروني في كتبه كثيرًا من فوائد النباتات الطبية والعقاقير والأدوية، كما كتب كتابًا أسماه (الصيدلة في الطب) وتجمعت لدي البيروني معلومات جغرافية كثيرة وضعها في كتاب سماه (نهاية الأماكن) وأثبت فيه أشياء لم تكن معروفة من قبل مثل:
أن وادي السند كان في العصور القديمة حوض بحر قديم كونته الرواسب التي حملها النهر.
وقال البيروني بدوران الأرض، وأنكر أن تكون الأرض مسطحة، وأنشأ مرصدًا خاصًّا به، وافترض أن الأرض ربما هي التي تدور حول الشمس، كما قال إن
الأزمان الجيولوجية تتعاقب في صورة دورات زمانية، كما اهتم البيروني أيضًا بدراسة التكوين الطبقي للصخور والأنهار والمحيطات، وابتكر نظامًا خاصًّا لرسم الخرائط
رسمًا مجسمًا، وللبيروني جهود علمية طيبة في الترجمة عن لغات أخري مثل: اللغة الهندية والفارسية .. وغيرها، وقد قام بترجمة اثنين وعشرين كتابًا إلى اللغة العربية أهمها: ترجمة كتاب (أصول إقليدس) وكتاب (المجسطي) لبطليموس
الفلكي.. وغيرهما.
وكان البيروني مفكرًا وفيلسوفًا إسلاميًّا؛ فهو يرى أن طلب العلم هو أسمى هدف للحياة البشرية، وأن مطالب الحياة تستلزم مراعاة أداء الفرائض الدينية والتمسك القوي بالدين الإسلامي، لكي تساعد الإنسان المسلم في تصريف الأمور، وتمييز الخير من الشر والصديق من العدو، وكان البيروني يقدر آراء العلماء الذين سبقوه ويسجلها في كتبه بأمانة وموضوعية، ويرُجع الفضل إلى أهله، كما كان يحترم تقاليد الشعوب الأخرى وعاداتها، وطرائقها في التفكير والمعيشة، ويظهر تسامح البيروني ومرونة عقله ونزاهته وموضوعيته في تقديره لعلوم اليونان والهنود
والفرس.. وغيرهم.
ولم يلق البيروني تقديرًا من المسلمين فحسب، بل إن الأوربيين كانوا يرون أن البيروني أكبر عقلية علمية في التاريخ، وأنه من أعظم العلماء الذين ظهروا على مر العصور، وأن اسمه يجب أن يوضع في لوحة الشرف التي تضم أكابر العلماء، وأنه من المستحيل أن يكتمل أي بحث في الرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا أو المعادن أو العلوم الإنسانية، دون الإقرار بإسهاماته العظيمة في كل علم من تلك العلوم، ومرت الأيام وأصبح البيروني شيخًا كبيرًا؛ فأراد أن يجمع تجاربه ومشاهداته العلمية في كتاب فكتب كتابًا أسماه (القانون المسعودي) وهو موسوعة ضخمة في العلوم نسبة إلى السلطان (مسعود) وفاءً وإخلاصًا له، فكافأه السلطان بأن أرسل له ثلاثة جمال محملة بالنقود والفضة، فرد أبو الريحان الهدية قائلاً: إنه يخدم العلم للعلم لا للمال.
وظل أبو الريحان يكتب البحوث المفيدة والقيمة، وينتقل من اكتشاف إلى اختراع إلى كتابة مؤلفات جديدة، وظل وفيًّا للعلم؛ فيذكر أنه وهو على فراش الموت زاره أحد أصدقائه فسأله البيروني عن مسألة سبق أن ناقشه فيها، فقال له صديقه: أفي مثل
هذه الحال تسأل ؟!! قال البيروني: يا هذا، الأفضل أن أودع الدنيا وأنا عالم بهذا
المسألة !!
وقد أشاد بمكانة البيروني العلمية كبار مؤرخي العلم، وأنشئت باسمه جامعة في (طشقند) عاصمة جمهورية أوزبكستان الإسلامية تقديرًا لمآثره العلمية، كما اختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا أطلقت أسماؤهم على بعض معالم القمر، ومات البيروني وشيعه كبار رجال العلم ومحبوه ممن تتلمذوا على يديه، وكان ذلك
سنة 440هـ.. رحم الله ذلك العالم المسلم الكبير بقدر ما قدم للإنسانية من علم ومعرفة.
 
رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

الشريف الإدريسي
في أواخر القرن الخامس الهجري سنة 493هـ، وفي مدينة (سبتة) بالمغرب ولد رجل من أعظم علماء الجغرافيا في العالم، إنه (محمد بن عبد الله بن إدريس) المعروف بالشريف الإدريسي.
ولد محمد بن عبد الله بن إدريس سنة 493هـ، ونشأ محبًّا للعلم يحب الطبيعة والأزهار، وكثيرًا ما كان يتتبع نمو الأزهار، والنباتات ومظاهر الطبيعة التي كانت تعجبه، وتشغل باله، ذهب الإدريسي في طفولته إلى الكُتَّاب ليحفظ القرآن ويتعلم اللغة والفقه، ولكنه لم ينتظر حتى يكمل دراسته، بل خرج للرحلة، ومشاهدة مظاهر الطبيعة في البلاد، فأكمل دراسته، وتعلمه خلال رحلاته ومشاهداته، ولم يهتم الإدريسي بعلوم الدين فقط، وإنما خرج يطوف في البلاد يشاهد ويدون، ويرسم ما شاهده، وقد دفعته نفسه التواقة إلى القيام برحلة كبيرة تغطي أرجاء
العالم الإسلامي، كما زار البرتغال وإيطاليا وسواحل فرنسا وإنجلترا، وكان لهذه الرحلات أثرها في تنمية معلوماته الجغرافية.
اتصل الإدريسي بالملك (روجر الثاني) ملك صقلية وكانت صقلية لا تزال تزدهر فيها الثقافة الإسلامية على الرغم من استيلاء النورمانديين عليها من المسلمين؛ فطلب من الإدريسي أن يرسم له خريطة للعالم، فاختار الرجال، ودربهم على دقة المشاهدة ليصوروا ما يشاهدونه برسومهم ويزودوه بمعلوماتٍ جغرافيةٍ عن البلاد التي سينزلون بها، وحين اطمأن إلى قدرتهم على إنجاز مهمته أرسلهم إلى بلادٍ كثيرة، وكان الإدريسي يدون المعلومات التي تصل إليه منهم، ويعيد صياغتها.
ثم جمع الإدريسي كل ما وصل إليه في كتاب سماه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وقد احتوى الكتاب على كثير من المعلومات الخاصة بغرب أوربا، وقد اشتهر هذا الكتاب بين علماء الشرق والغرب وخاصة المشتغلين بالجغرافيا، واستغرق إخراج هذا الكتاب خمسة عشر عامًا.
وبعد الانتهاء من تأليفه، أهداه إلى صديقه الملك روجر سنة 1154م الذي أعجب به، وكافأه عليه، ثم قام برسم خريطة للعالم حسب طلب الملك (روجر) على لوح مستطيل من الفضة؛ حيث اشتملت على عدد كبير من الأسماء، ثم طلب منه أن يصنع له كرة توضح شكل الكرة الأرضية، فأمر الإدريسي أن تفرغ له من الفضة الخالصة دائرة مفصلة عظيمة الحجم في وزن 400 رطل، فلما كملت أمر العمال أن ينقشوا عليها صور الأقاليم ببلادها، وأقطارها وريفها وخلجانها وبحارها ومواقع أنهارها وعامرها والطرق والمسافات بين البلاد والمراسي، لا يتركون شيئًا، ويأتون به على هيئته وشكله، فصنع بذلك أول مجسم لكرة أرضية دقيقة عُرفت في التاريخ على هذا الشكل، ولكن للأسف تعرضت للضياع.
ولم يَبْقَ من آثار الإدريسي إلا كتابه وأطلس خرائطه، ويعد الإدريسي أول جغرافي متخصص في هذا العلم، فقد فاق (بطليموس) العالم اليوناني القديم الذي كان يدرس الرياضيات والفلك، فكان اهتمامه بالجغرافيا لهذا السبب، أما الإدريسي فلم يهتم إلا بالجغرافيا فقط، فجعلها علمًا مثل باقي العلوم ومن إسهاماته في هذا المجال أنه أكد على خطوط الطول والعرض لتحديد المكان والمسافة، وقال بكروية الأرض، وترك عددًَا من الخرائط لمنابع نهر النيل والبحار وأقاليم العالم القديم.
وقد اهتمت الدول المختلفة بنقل المعلومات التي كتبها الإدريسي عنها ودرسوها فكان الإدريسي بذلك أعظم جغرافي آنذاك، وحصل على تلك المكانة بفضل ملكاته الممتازة في رسم الخرائط، ويعتبر أطلسه أهم أثر للخرائط التي رُسِمَتْ في العصور الوسطي، وقد استطاع (كونراد ميللر) أن يستخرج من أطلس خرائط الإدريسي خريطة جامعة للعالم، وطبعت سنة 1938م ملونة وفي 1951م طُبِعَت باللغة العربية وظل الاعتماد على خرائطه في أوربا حتى القرن السادس عشر الميلادي.
ولم يكن الإدريسي بارعًا في الجغرافيا وحدها بل برع أيضًا في النبات وبخاصة الأعشاب الطبية، وألف فيه كتابه (الجامع لصفات أشتات النبات) وقد استفاد
(ابن البيطار) النباتي المشهور من هذا الكتاب الذي لم يصل إلينا، ونقل منه مائة مرة أشياء تختص بالأشجار والنبات والأزهار.
وظل الإدريسي يعمل في خدمة العلم، تحت رعاية صديقه الملك (روجر الثاني) ومن جاء بعده، حتى توفي في سنة 560هـ على رأي أكثر المؤرخين وهو بعيد وغريب عن بلده يسعى للعلم.
 
رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

ابن النفيس
ازدهر العلم في دمشق بفضل حكامها الأيوبيين، الذين جعلوا منها مركزًا للعلوم والفنون، فجاء إليها العلماء من كل مكان، وخصوصًا الأطباء الذين اجتذبهم بيمارستان (دمشق) وكان أغلبهم من تلاميذ الطبيب الشهير (أمين الدولة ابن التلميذ) البغدادي الأصل، وقد حمل هؤلاء معهم كتبًا من أشهر الكتب في الطب ومن أهمها كتب (ابن سينا) وغيره من كتب كبار الأطباء.
وفي دمشق ولد (ابن النفيس علاء الدين علي بن أبي الحزم) ليجد هذا الاهتمام بدراسة الطب، فتتلمذ على يد (مهذب الدين عبد الرحيم) المسمي (بالدخوار) والذي كان طبيبًا للعيون في (البيمارستان النوري) بدمشق، ثم عينه السلطان
سيف الدين أخو صلاح الدين الأيوبي وخليفته رئيسًا لأطباء سوريا ومصر، وتتلمذ ابن النفيس أيضًا على يد (عمران الإسرائيلي) الذي عالج مرضى قد يئسوا من الشفاء، وظل ابن النفيس يتدرب على مهنة الطب، يفحص المرضى، ويتابع مراحل علاجهم إلى أن أرسله الأيوبيون مع مجموعة من زملائه إلى مصر، وجاء
(ابن النفيس) إلى القاهرة، فوجدها غاية في الجمال، وكان يذهب إلى الأماكن
الهادئة ليبحث المسائل العلمية المعقدة، وعاش (ابن النفيس) في داره المهيأة له
بالقاهرة، وأخذ العلماء والأطباء والأمراء والأعيان يترددون عليه، يتناقشون معه في المسائل العلمية.
أحب (ابن النفيس) كتب (ابن سينا) وبسطها للتلاميذ والطلاب حتى يسهل عليهم فهمها ومعرفة ما جاء بها، ولم يبخل على أحد بعلمه، بل إنه أوصى بما جمعه من الكتب القيمة للبيمارستان المنصوري بالقاهرة، وكان لا يحجب نفسه عن الإفادة لمن قصده ليلا أو نهارًا، ولم يكن ابن النفيس الذي لقب بابن سينا زمانه طبيبًا فقط، بل قام بتدريس الفقه بمدرسة المسرورية بالقاهرة، وكتب في الحديث والسيرة النبوية الشريفة والنحو.
وكان أعظم ما كتبه ابن النفيس كتابه (شرح تشريح القانون) وهو شرح لكتاب (القانون) لابن سينا، وكان يهدف من شرح هذا الكتاب الإعانة على إتقان العلم بفن التشريح، وقد اهتم ابن النفيس في هذا الكتاب بالقسم المتعلق بتشريح القلب والحنجرة والرئتين، كما توصل إلى كشف الدورة الدموية الصغرى قبل أن يكتشفها (هارفي) الذي ينسب إليه اكتشافها.
وقد استفاد علماء أوروبا من نظريات وكتب (ابن النفيس) ففي مدينة (البندقية) نشر طبيب إيطالي اسمه (الباجو) ترجمة باللغة اللاتينية لأجزاء كثيرة من كتاب
(شرح تشريح القانون) كما استفاد منه (هارفي) الذي وصف الدورة الدموية، ومن أهم المؤلفات التي تركها (ابن النفيس) كتاب: (الشامل في الطب) الذي يعد موسوعة طبية، وكان يعتزم إصدارها في ثلاثمائة جزء إلا أنه توفي ولم يكتب منها سوي ثمانين.
ومن كتبه الأخرى كتاب (المهذب في الكحل) وهو كتاب يصف علاج أمراض العيون، وشرح فصول أبقراط.. وغيرها، وكان ابن النفيس سريع التأليف، قيل: إنه إذا أراد أن يؤلف شيئًا وضعت له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط، ثم يكتب بسرعة شديدة، فإذا تلف القلم رماه وتناول غيره حتى لا يضيع الوقت في بري
القلم !!
ومرض ابن النفيس، فزعم له بعض أصحابه من الأطباء أن تناوله لشيء من الخمر سيشفيه، فرفض ذلك وقال: (لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر) وظل
ابن النفيس الطبيب الشهير مريضًا ستة أيام، ثم توفي وكان ذلك في ذي الحجة
سنة 687هـ بالقاهرة.
 
رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

ابن بطوطة
في درب صغير بمدينة (طنجة) بالمغرب، كان يعيش فتى عربي مسلم يهوى قراءة كتب الرحلات، والاستماع إلى أخبار الدول والناس، وعجائب الأسفار من الحجاج والتجار الذين يلقاهم في ميناء (طنجة) أو من أصدقاء أبيه.. هذا الفتي هو
(محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي) الشهير بـ(ابن بطوطة) ولد في (طنجة) في شهر رجب عام 703 هـ/1304م.
كان أبوه فقيهًا يشتغل بالقضاء وكان يعد ولده ليكون خلفًا له، لذلك حفظ ابن بطوطة القرآن، ودرس العلوم الدينية، والأدب والشعر، فشبَّ تقيًّا، ورعًا، محبًّا للعلماء والأولياء، ولكنه لم يُتِمَّ دراسة الفقه بسبب رغبته في السفر والترحال؛ فكان خروجه إلى الحج، وهو في الثانية والعشرين من عمره، نقطة التحول في حياته، إذا ارتدى منذ ذاك الحين ثوب الترحال وأخذ يجوب أرجاء العالم الإسلامي، وحين خرج ابن بطوطة من (طنجة) سنة 725هـ/ 1325م قاصدًا الكعبة، وزيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، لم يخرج مع قافلة الحج، بل خرج مع قوم لا يعرفهم، ولم يستقر مع جماعة منهم، فأخذ ينتقل من مركب إلى آخر، ومن قافلة إلى أخرى، فقد كان اهتمامه برؤية أصناف الناس، والغرائب التي يصنعونها هو شغله الشاغل.
كان مما لاحظه ابن بطوطة أن أصحاب كل حرفة ينزلون ضيوفًا على أصحاب نفس الحرفة في البلاد الأخرى؛ فالقاضي ينزل على القاضي، والفقيه على الفقيه، لذلك فقد فرح ابن بطوطة عندما قدمه الناس على أنه من القضاة، ومنذ ذاك الحين أصبح ينزل على القضاة والفقهاء في كل بلدٍ يذهب إليه.
ومن خلال رحلات ابن بطوطة، يظهر مدى ترابط الأمة الإسلامية وقوة وحدتها حيث إنه خرج لرحلته الطويلة بمال قليل ولكن ترابط الأمة وتآخيها عمل على معاونته في رحلته، وإمداده بما يريد، كانت رحلته الأولى من سنة 725هـ/1325م إلى 749هـ/1349م وقضى فيها 24 سنة، ومر فيها بمراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر ثم إلى فلسطين ولبنان وسوريا والحجاز، فحج حجته الأولى ومن مكة غادر إلى بلاد العراق وإيران وبلاد الأناضول، ثم عاد إلى مكة فحج حجته الثانية، ثم غادرها إلى اليمن ثم إفريقية الشرقية، ثم زار عمان والبحرين والإحْساء، ثم رجع مكة فأدى مناسك الحج.
خرج ابن بطوطة إلى الهند وخراسان وتركستان وأفغانستان وكابول والسند، وتولى القضاء في (دلهي) على المذهب المالكي، ولما أراد السلطان محمد شاه أن يرسل وفدًا إلى ملك الصين خرج ابن بطوطة فيه، وفي عودته مر بجزيرة (سرنديب) والهند والصين، ثم عاد إلى بلاد العرب عن طريق (سومطرة) سنة 748هـ/ 1347م، فزار بلاد العجم والعراق وسوريا وفلسطين ومنها لمكة فحج حجته الرابعة إلى بيت الله، ثم رأى أن يعود إلى وطنه فمر بمصر وتونس والجزائر ومراكش فوصل فاس
سنة 750هـ/ 1349م.
وقد كان ابن بطوطة إذا ما ذَكَرَ ما تمتع به في حياته من نعمة وجاه يقول: (إنما كان لأنني حججتُ أربع حجات) ثم ما لبث أن قام برحلته الثانية بعد أن أقام في فاس فترة قصيرة لكنه وجد في نفسه شوقًا إلى السفر إلى بلاد الأندلس، فمر في طريقه
بـ(طنجة) و(جبل طارق) و(غرناطة) ثم عاد إلى فاس، وفي سنة 753هـ/1352م كانت رحلة ابن بطوطة الثالثة إلى بلاد السودان، ثم مالي (تومبوكتو) وكثير من بلاد إفريقية ثم رجع إلى فاس، وظلت مدة عامين، فقد انتهت 755هـ/ 1354م.
وكانت لابن بطوطة معرفة بطب الأعشاب التي كان الناس يتداوون بها من الأمراض الشائعة، وكان يداوي نفسه بنفسه، ولقد أعانه على رحلته قوة بدنه، فكان يأكل أي طعام -عدا المحرمات- وقد أصابته الحمى أكثر من مرة، وكاد دوار البحر أن يهلكه لولا رعاية الله له، وقد استغرقت رحلاته أكثر من ثمانية وعشرين عامًا كشفت هذه الرحلات عن أسرار كثيرة من البلاد التي زارها ابن بطوطة، إذ يعد أول من كتب شيئًا عن استعمال ورق النقد في الصين، وعن استخدام الفحم الحجري وكان صادقًا في أغلب أوصافه،حتى إن المستشرق (دوزي) أطلق عليه
(الرحالة الأمين) وقد أتقن ابن بطوطة خلال رحلته اللغتين الفارسية والتركية، وقطع مائة وأربعين ألف كيلو متر، أكثرها في البحر، وتعرض للأخطار والمهالك في الصحاري والغابات، وقطاع الطريق في البر، وقراصنة البحر، ونجا مرارًا من الموت والأسر.
وقد كان ابن بطوطة سريع التأثر يدل على ذلك قوله: وعندما وصلت إلى تونس برز أهلها للقاء الشيخ (عبد الله الزبيدي) ولقاء الطيب ابن القاضي أبي عبد الله النفراوي فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال، ولم يُسَلِّمْ على أحد لعدم معرفتي بهم فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق الْعَبْرَة، واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجاج، فأقبل على بالسلام والإيناس ومازال يؤانسني بحديثه حتى دخلت المدينة، وأما حبه لوالديه فقد أفصح عنه أيما إفصاح حيث يقول في مقدمة رحلته: إنه تركهما فتحمل لبعدهما المشاق كما لقى من الفراق نصبًا، فلما عاد من رحلته الأولى وبلغه موت أمه حزن حزنًا شديدًا قطعه عن كل شيء، وسافر لزيارة قبر والدته.
اتصل ابن بطوطة بالسلطان أبي عنان المريني، وأقام في حاشيته يُحَدِّثُ الناس بما رآه من عجائب الأسفار، ولما علم السلطان بأمره وما ينقله من طرائف الأخبار عن البلاد التي زارها أمر كاتبه الوزير محمد بن جُزَي الكلبي أن يكتب ما يمليه عليه الشيخ ابن بطوطة فانتهى من كتابتها سنة 1356م، وسماها (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وقد ظلت رحلة ابن بطوطة موضع تقدير كثير من العلماء والباحثين فترة طويلة، وتُرجِمَت إلى اللغة الإنجليزية، ونُشِرَت في لندن
سنة 1829م، وتُرجِمَت إلى اللغة الفرنسية، وطُبِعَت في باريس
سنة 1853م وتُرجِمَت إلى الألمانية، وطُبِعَت سنة 1912م، وكذلك تُرجِمَت إلى اللغة التركية.
وفي عام 779هـ/1378م كان وداع ابن بطوطة للدنيا بمدينة طنجة، ومن يزور المغرب اليوم سيجد بمدينة طنجة دربا (طريقًا) اسمه درب ابن بطوطة حيث كان يعيش، وسيجد بالقرب من سوق طنجة ضريحه الذي دفن فيه.
 
رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

عبد الرحمن الجبرتي
كان والده الشيخ (حسن الجبرتي) من كبار علماء الأزهر، لكنه كان
مميزًا عنهم، ففي الوقت الذي كان فيه زملاؤه يتجهون إلى دراسة الفقه والنحو والبلاغة والتفسير، أضاف هو إليها دراسة الرياضيات، والمسائل الفلكية، ولقب الجبرتي نسبة إلى (جبرت) إحدى مدن الحبشة الإسلامية التي رحل منها أجداد الجبرتي إلى مصر في القرن العاشر الهجري.
أحب الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم وتعلق بها تعلق الأم بوليدها حتى
نبغ فيها، فتوافد عليه التلاميذ يستفيدون من علمه، ففتح لهم منزله الفسيح
الرحب؛ حيث كان غنيًّا ورث عن آبائه المنازل والمتاجر، وازداد ثراؤه
أكثر وأكثر من أرباح التجارة؛ لأنه كان تاجرًا ماهرًا في الوقت الذي كان فيه عالـمًا جليلاً.
في هذا البيت الحافل بالعلم والنعيم، ولد (عبد الرحمن الجبرتي)
عام 1167هـ/1754م، لكن والده لم يفرح بولادته كسائر الآباء، بل استقبله استقبالا حزينًا؛ فقد ولد له أطفال كثيرون من قبل، وكان الموت يخطفهم من بين يديه بعد أن يبلغوا من العمر عامًا أو عامين، فكان يخشى أن يكون مصيره مثل مصير إخوته لكن عناية الله أحاطت بـعبد الرحمن فلم تمتد إليه يد الموت، وقدرت له الحياة.
نشأ عبد الرحمن في بيت أبيه، يحفظ القرآن الكريم، وكغيره من أولاد العلماء ذهب إلى المدارس والكتاتيب لتعلم العلوم الدينية، وعين له والده شيخًا ليحفظه القرآن هو الشيخ (محمد موسى الجناجي) وشب عبد الرحمن فرأى العلماء والأدباء يأتون منزل أبيه؛ يتحدثون في العلوم والآداب، فجلس يستمع إليهم، ويأخذ من علمهم، كما استمع إلى كبار رجال الدولة وأمراء المماليك وأغنياء مصر الذين كانوا لا ينقطعون عن زيارة أبيه، بل إن جماعة من الأوروبيين كانت تأتي إليه؛ ليتعلموا على يديه علم الهندسة، فعرف الجبرتي الكثير عن أحوال مصر وأسرارها، وكان يدخر كل ذلك في ذاكرته الحافظة الواعية، وازداد عبد الرحمن الجبرتي علمًا عندما ارتاد حلقات الأزهر الشريف.
توفي والد عبد الرحمن عام 1188هـ فترك له ثروة كبيرة وأراضٍ زراعية في أنحاء عديدة من مصر، فاضطر أن يتفقد أملاكه بنفسه، فرحل عن القاهرة حيث توجد هذه الأراضي في أقاليم مصر المختلفة فتهيأت له فرصة مناسبة ليعرف أحوال
مصر، وطبقات الشعب من حكام وفلاحين وعمال ثم عاد إلى القاهرة بعد أن ازدادت معارفه، وواصل الشاب دراسته بالأزهر.
وأعجب (عبد الرحمن الجبرتي) بأحد علماء اليمن الذي وفد إلى مصر إعجابًا شديدًا وهو محمد المرتضي الزبيدي صاحب تاج العروس، ولازم مجلسه، حتى أصبح من تلاميذه المخلصين، وذات يوم أخبر (الزبيدي) تلميذه (الجبرتي) بأنه يريد أن يسجل أحداث الماضي، ويؤرخ لعلماء القرن الثامن عشر وأمرائه ومشاهيره، وطلب من الجبرتي أن يساعده في هذا العمل؛ فيجمع كل ما يستطيعه عن حياة السابقين، ويقرأ النقوش فوق القبور وعلى المساجد والآثار، وأعجب (عبد الرحمن الجبرتي) بالفكرة فأخذ يبحث ويسأل ثم يسجل معلوماته ويكتبها.
وبينما هو على هذه الحال مات أستاذه سنة (1205هـ-1790م) فحزن عليه حزنًا شديدًا، لكنه لم ييأس بل صمم على تكملة سيرته، فأخذ يكتب كل ما يراه ويشاهده، ويسجل كل صغيرة وكبيرة ومضت الأيام، وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، فكتب عنها بحياد تام وسجل يومياته أولاً بأول في كتابه (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس) وكتب عما ارتكبه الفرنسيون من تدمير ونسف وقتل، وما أمطروا به المساجد والأسواق والمنازل من قنابل أدت إلى موت الكثيرين من أبناء الشعب المصري، لكنه يغض الطرف عن بعض مزايا الفرنسيين مثل حبهم للعلم والعمل واحترامهم للقانون.
وكتب (عبد الرحمن الجبرتي) عن المماليك وكيف أن بعضهم كانوا ينهبون ويقتلون ويخطفون الغلمان والنساء، ويسرقون الحلي من صدور النساء، كتب كل ذلك دون أن يجامل أحدًا منهم، بالرغم من أنه كانت تربطه بهم روابط صداقة، فلم يكن كتابه مجاملة لأمير أو طاعة لوزير، ومضى عهد الفرنسيين وتولى (محمد علي) أمور الدولة فكتب (الجبرتي) بكل جرأة عن الغلاء الفاحش في عهد (محمد علي) وعن مصادرة الأموال، وانتهاك الحرمات، والسطو على المتاجر والمصانع، كما ندَّد بالطغاة
أمثال: (سليمان أغا السلحدار) و(محمد الدفتردار) من أتباع الوالي، ومع ذلك لم يغفل ما قام به (محمد علي) من أعمال مفيدة كإنشاء المصانع وبناء السفن وتشجيع العلماء وسجل ذلك كله في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
وانتشر ما كتبه الجبرتي عن هؤلاء الظلمة، على ألسنة الناس فتربصوا به، وحاولوا النيل منه، فقتلوا ابنه خليلاً في سنة 1237هـ، وتوقف بعدها الجبرتي عن
الكتابة، وحزن على ابنه حزنًا شديدًا، حتى فقد بصره ومات
عام 1241هـ/1825م.
 
رد: أعلام المسلمين سيرة وبطولات و ابداعات رجال خدموا الاسلا

د.محمد عبد السلام
في قرية ريفية اسمها (جهانج) تقع في ولاية (البنجاب) التابعة لباكستان الآن، وفي
29 يناير سنة 1926م، ولد (محمد عبد السلام).
كان والده موظفًا صغيرًا في الجمعية الزراعية، لكنه لم يبخل بماله وجهده في تربية ولده، فاهتم اهتمامًا كبيرًا بمحمد أو (سلام) كما يحلو لزملائه من العلماء الغربيين أن يلقبوه، كان والده يتابعه في المدرسة، ويتصل بمدرسيه يطمئن على مستوى تحصيله الدراسي، بل إنه علَّمه اللغة الإنجليزية بنفسه، حين لم تنجح المدرسة في ذلك.
وكان والده حريصًا كل الحرص على تعليمه آداب الإسلام؛ فعلمه ألا يبدأ أي عمل إلا باسم الله، كما علمه أن يكرر دائمًا قوله تعالى: {واحلل عقدة من لساني}
[طه: 72] لكي يصفو قلبه للعلم، وحرص في الوقت نفسه على نصحه
لعمل الخير، ومواجهة الشر، والتخلق بأخلاق الإسلام، لذلك كله كان (سلام) يعتز بوالده اعتزازًا كبيرًا، فقد أهدي والده أحد كتبه قائلاً: (إلى ذكرى والدي الذي علمني الإسلام).
وعندما وصل (سلام) إلى الرابعة عشرة من عمره، حصل على منحة دراسية من جامعة البنجاب الحكومية في (لاهور) وبعد انتهائه من دراسة الرياضيات في جامعة (البنجاب) في عام 1946م لم يستطع (سلام) الالتحاق بأية وظيفة بسبب الحرب العالمية الثانية، ولكنه استطاع الحصول على منحة للدراسة في جامعة (كمبردج) بإنجلترا لتكملة دراسته، وانتقل سلام من باكستان إلى كلية (ترنتي) التابعة لجامعة كمبردج؛ حيث بدأ في دراسة الفيزياء النظرية التي تتمشى مع
موهبته الرياضية، وخلال فترة دراسته للحصول على درجة الدكتوراه، عمل على استكمال العديد من النظريات العلمية.
شعر (سلام) بأن عليه دينًا تجاه وطنه ودينه، فقرر الرجوع إلى بلده باكستان ليُسهم بعلمه في بنائها ومساعدة أبنائها، فعاد إليها وعمل هناك ثلاث
سنوات 1951م/1954م كرئيس لقسم الرياضيات، لكنه أحس بعد فترة بأنه في حاجة للعودة إلى (إنجلترا) للاستمرار في البحث العلمي، والاطلاع على أحدث ما وصل إليه العلم، وظل (سلام) متمسكًا بدينه، شديد الغيرة عليه، ودائمًا كان يحلم بأن تعود صفحات التاريخ المشرق، ويقود المسلمون زمام العلم في كل أنحاء العالم كما كانوا في الماضي، فكان يحلم بأن يظهر من بين المسلمين علماء كبار أمثال:
ابن الهيثم، وابن سينا، والفارابي، والخوارزمي .. وغيرهم ممن أناروا الدنيا كلها بنور العلم.
وفي الوقت نفسه، كان (سلام) يشعر بالمرارة والألم على حال المسلمين، وما وصلوا إليه من تدهور، فقد دخل إحدى المستشفيات فرأى أن أغلب الأدوية العلاجية التي يعالَج بها المسلمون قد تمَّ التوصل إلى أغلبها دون المشاركة في الجهد من أي فرد من أفراد أمة الإسلام، وغلي الدم في عروق (سلام) عندما تذكر كلمات عالم أوروبي قالها له ذات مرة: (هل تعتقد حقًّا يا سلام أن علينا التزامًا بأن نعين ونساعد ونغذى ونبقى على حياة تلك الأمم التي لم تُضِفْ ولو ذرة واحدة إلى حصيلة المعرفة البشرية؟!).
وأدرك (سلام) أن المسلمين تأخروا؛ لأنهم لم يأخذوا بتعاليم القرآن الكريم التي تنص على أن المعرفة هي أسمى ما يمكن أن يحققه الإنسان، فيقول: (إن سبعمائة وخمسين آية من آيات القرآن الكريم (أي ما يقرب من ثمن عدد آياته) تحث المؤمنين على دراسة الطبيعة والتفكر فيها، وعلى الاستخدام الأمثل للعقل بحثًا عما هو جوهري في الطبيعة).
ودفعته الغيرة على الإسلام إلى الجد والاجتهاد، فلا وقت للهزل واللعب؛ فاستطاع أن يحقق إنجازات ضخمة في مجال الفيزياء النظرية، وقام بنجاح بتوحيد القوى النووية الضعيفة مع القوي الكهرومغناطيسية، وهو ما حصل بسببه على جائزة (نوبل) في الفيزياء في عام 1979م.
ويعتبر (محمد عبد السلام) من أكبر العلماء المسلمين خلال القرون الستة الأخيرة ويعد من كبار علماء الفيزياء المعاصرين، وقد مُنح أكثر من خمس وعشرين درجة دكتوراه فخرية، وثماني عشرة جائزة وميدالية في مجال الفيزياء، أهمها: جائزة الذرة من أجل السلام (1968م) وجائزة نوبل في الفيزياء (1979م) وجائزة لومو نوسوف الذهبية من أكاديمية العلوم السوفيتية (1983م) وكذلك أربعة أوسمة رفيعة من مختلف دول العالم.
كما اختير عضوًا في ثلاثة وعشرين أكاديمية علمية، بما في ذلك أكاديمية العلوم في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وشغل مناصب عديدة في الأمم المتحدة ومنظماتها، مثل: منصب السكرتير العلمي لمؤتمر جنيف للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، ومنصب رئيس لجنة الأمم المتحدة الاستشارية للعلم والتكنولوجيا، كذلك شغل عدة مناصب رفيعة في موطنه (باكستان) أهمها منصب المستشار العلمي لرئيس الجمهورية، ورئيس المجلس الباكستاني لدراسة الفضاء، وطبقات الجو العليا.
أما عن إنجازاته العلمية فأهمها: كتابة أكثر من 250 بحثًا علميًّا في مجال فيزياء الجسيمات الأولية، وكذلك دراسات عن العلم وسياسات التدريس في
باكستان ودول العالم الثالث، كما نشر ثلاثة كتب؛ اثنين منها في مجال الفيزياء النظرية.
وطالب الدكتور سلام بإنشاء صندوق إسلامي للموهوبين في العلوم، يشجع شباب المسلمين على متابعة الدراسات العلمية، كما نصح بأن تهيئ الأمة الإسلامية لعلمائها الإمكانات العلمية والمادية التي تساعدهم على العمل والتقدم العلمي.
كان سلام مسلمًا معتزًّا بدينه، لا يترك مناسبة من المناسبات إلا ويفتخر بإسلامه ويعلن للملأ أن دينه يدعو إلى العلم، فها هو ذا يقول: (اسمحوا لي أن أقول: إنني مسلم مقيم لشعائر ديني الإسلامي، ذلك أنني أومن بالرسالة الروحية للقرآن الكريم وكعالم، فإنني أجد في القرآن الكريم إرشادًا يحثني على ضرورة التفكر في قوانين الطبيعة، ضاربًا لنا الأمثال من علوم الكون والفيزياء والطب كعلامات دالة لكل الناس.
 

Users Who Are Viewing This Thread (Total: 0, Members: 0, Guests: 0)

Who Read This Thread (Total Members: 1)

User Who Replied This Thread (Total Members: 3)

عودة
أعلى