بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: الدكتور صالح بن سعد السحيمي
القواعد التي يصار إليها في التعامل مع الناس
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أسباب أهمية الموضوع:
فهذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن مسألة التعامل مع الناس تشمل التعامل مع جميع البشر الذين قد يكون منهم المسلم والكافر والمنافق، والذمي والمعاهد والمستأمن والمحارب، وقد يكون من المسلمين السني والمبتدع ومَنْ بِدَعُهُ غليظة ومركبة، ومَنْ بِدَعُهُ يسيرة. وكل يحتاج إلى معاملة بحسب ما يقتضيه مقام الحال، وقد أمر الله – عز وجل – بحسن التعامل مع الآخرين، كيف لا وهو الذي وصف الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم – في قوله – تبارك وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [سورة آل عمران: الآية 159]، وفي مثل قوله – عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة النساء: الآية 94]، وكذا قوله سبحانه – في وصف نبيه – صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة: الآية 128]، وقوله – جل وعلا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم: الآية 4].
وقد أمر الله – عز وجل – نبييه ورسوليه موسى وهارون – عليهما السلام – وهما يقابلان أعتى مجرم على وجه الأرض، أمرهما أن يلينا القول معه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه: الآية 44]، ويوجد من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – نماذج كثيرة في هذا السبيل، منها موقفه حين لقي قريشا يوم فتح مكة، وكانوا يظنون أنه سينتقم منهم فقال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء» (1)، والنماذج كثيرة منها تعامله مع أصحابه، وتعامله مع المعاهدين ومنه زيارته إلى ذلكم الغلام اليهودي، والذي كان سببا في إسلامه عندما جاء ودعاه إلى الإسلام بعد أن مرض، فنظر إلى أبيه وكأنه يستأذنه فقال له: «أطع أبا القاسم فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله»(2)، فكان أنموذج عظيما في حسن التعامل مع الآخرين كل بحسبه.
قواعد في التعامل مع الناس:
إنصاف المخالف والعدل معه:
من تلك القواعد إنصاف المخالف والعدل معه وعدم ظلمه مهما كان، فالعدل مطلوب مع جميع المخالفين، حتى مع الكفار يقول الله – جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [سورة المائدة: الآية 8]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [سورة النساء: الآية 135]، ويقول جل وعلا: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [سورة النساء: الآية 58]، ويقول جل وعلا: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ [سورة الأنعام: الآية 152]، فلا بد من إنصاف المخالف، حتى لو أردت أن تبين له ما عنده أو ترد عليه لا بد من الإنصاف، فالإنصاف وتوخي العدل لا بد من مراعاته.
مراعاة جلب المصالح ودفع المضار:
القاعدة الثانية لا بد من مراعاة جلب المصالح ودفع المضار، حتى ولو بارتكاب أدنى المفسدتين من أجل إحداهما، والمهم هو أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ بأن يوازن المرء عندما يريد أن يعامل الآخرين، أو يتعامل مع الآخرين بين المصلحة والمفسدة، فيسلك الأسلوب المناسب الذي يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وهذا أمر قد سلكه النبي – صلى الله عليه وسلم – في تعامله مع الآخرين، يدلل على ذلك كثير من الوقائع والعقود التي عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الآخرين، حتى ولو كان في هذه العقود والمعاهدات حيف أحيانا على المسلمين.
معرفة لغة المتكلم وسماع رأيه:
ومن القواعد أيضا التي تنبغي مراعاتها، معرفة لغة المتكلم وحقيقة رأيه؛ لئلا يظلم أو يحمل قوله على غير وجه الصواب؛ لأن فهم المراد أمر في غاية الأهمية، وربما وقعت كثير من المصائب بسبب عدم فهم المراد، أو بسبب كلمة غير مفهومة، وربما حصلت الحروب والمفاسد بسبب كلمة، فلا بد من معرفة لغة المتكلم ومعرفة مراده، وإذا كان كلامه يَحْتَمِلُ أكثر من وجه فلنحمله على الوجه الحسن.
ضرورة التثبت من الأقوال:
القاعدة الرابعة التثبت من الأقوال، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [سورة الحجرات: الآية 6]، فالمسلم يجب عليه أن يتثبت من الأمور، وألا يتسرع في تصديق الشائعات أو نشرها بين الناس، لاسيما وأن نشرها قد يؤدي إلى فتن خطيرة ربما تؤدي إلى مفاسد لا تحمد عقباها.
التخلص من سلطة الأتباع:
كذلك من المسائل المهمة في التعامل مع الناس، التخلص من سلطة الأتباع، فكثيرا ما تحصل المفاسد في التعاملات بسبب تسلط بعض الأتباع على المتبوعين، هذا في غياب المسؤل وغفلته، بل ربما ينقلون إليه كلاما غير واقع، أو يصورون له الأمر صورة تهيجه وتجعله يتفاعل مع الموقف، ويبالغ في الموضوع ويُحَمِّلُ المسألةَ مالم تحتمل، فالأتباع قد يوقعون متبوعَهُمْ في أمور خطيرة، فيجب على هذا المتبوع أو المتكلم أن يتثبت وأن يتأكد من الأقوال، وهذا يتضح ويتعلق بالقاعدة السادسة وهي:
لزوم آداب الشرع مع المخالف:
لزوم آداب الشرع مع المخالف، وهذا يندرج تحته أمور، الأمر الأول:
حسن الظن؛ لأن الأصل في المسلم السلامة، يقول الله – سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [سورة الحجرات: الآية 12]، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»(4).
ومن ذلك الخضوع للحق الذي نطق به الخصم فالحق يقبل ممن جاء به، ولنا عبرة في قبول أبي هريرة لِمَا قاله ذلكم الشيطان الذي جاءه، والذي قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه: «صدقك وهو كذوب»(5)، فالحق يقبل ممن جاء به، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في هذا المعنى: “ما ناظرت من أحد إلا قلت: اللهم أَجْرِ الحق على لسانه وقلبه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته”.
ومن ذلك الستر على المخطئ دون أن يذكر اسمه، إذا كان الأمر يتطلب ذلك في بعض الأحوال، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة»(6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»(7).
ومن الوسائل أيضا، البحث في الوسائل لتجاوز الافتراق والاختلاف وللتعامل مع الآخرين؛ فإن الاتفاق عمل وليس قولا، ومن سلك طريق الاتفاق وقَصَدَهُ فإن الله يوفقه، قال الله – جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سورة العنكبوت: الآية 69]، ويمكن تفعيل هذه الوسائل، بالرجوع إلى أهل العلم الذين يفصلون في الخلاف.
ومنها سلامة المقصد وكثرة الاستفسار والنقاش واللقاء للوصول إلى الحق، ومنها أيضا الجد والاجتهاد في نشر الآداب، ونشر الكلام عن أدب الاختلاف؛ حتى يفهمه الآخرون، فإن من سنة الله – سبحانه وتعالى – أن جعلهم مختلفين، قال الله جل وعلا:﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة هود: الآية 118- 119]، قد يكونون مختلفين في ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وعواطفهم وعقولهم وميولهم وكثير من أمورهم، وكذلك في آراءهم ونظراتهم.
الجد والاجتهاد في سلامة القلب وطهارته من الأحقاد والأضغان؛ لأن سلامة القلب في غاية الأهمية للمسلم، فعلى المسلم أن يتجرد لله – سبحانه وتعالى – حتى لا يقع في المخالفات الشرعية، و حتى لا يظلم الآخرين ويتعامل معهم على غير هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – والقواعد كثيرة والمسائل كثيرة أكثر من أن تحصر.
ثانياً :الدكتور سعد بن مطر العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لا شك أن موضوع الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس موضوع مهم جدا، لأنه من الموضوعات التي لا يكفي فيها العلم بها، بل لا بد من توطين النفس وتدريبها عليه، مع الاستمرار في تثقيف العقل بها، حتى تعتادها النفس وتتفاعل معها تفاعلا إيجابيا، وكثير من أساليب التعامل مع الناس لا تتأتى لدى الناس إلا بالتجربة، أما بالنسبة لنا نحن المسلمين فإن أسسها وقواعدها قد جاءت في الوحي، من كتاب وسنة.
والحقيقة أن هذا الأمر، أمر التعامل مع الناس مما يؤرق عقلاء الناس في العالم، ولذلك نجد هناك مؤلفات عند غير المسلمين أُلِّفَتْ في هذا الموضوع، يتعلمونه ويسجلون تجاربهم فيه، بل هناك معاهد متخصصة للتدريب على التعامل مع الناس فيما يعرف بمهارات الاتصال والتنمية البشرية، وهذا يؤكد أهمية هذا الأمر.
وبالنسبة لعلمائنا وتراثنا سنجد أن هناك الكثير من الكتابات والاهتمام والتدريب العملي أيضا، فنجد مثلا أن علمائنا قد تكلموا عن هذا الأمر في موضوعات، مثل آداب الصحبة وآداب العشرة وآداب الحديث، وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك مؤلفات في الآداب الشرعية تكشف وتبين هذه الأمور أيضا، كل هذا إضافة إلى ما هو موجود من شروح أو تفاسير للنصوص القرآنية، وشروح للأحاديث والسيرة النبوية سيرة محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي كان خلقه القرآن، ومن يتأمل نصوص القرآن الكريم يجد الأمر واضحا، لكنه ليس سهلا، وهذه الحقيقة أكدها الله – عز وجل – فقال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [سورة فصلت: الآية 35].
و ليس هناك أحكم ولا أرقى من الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس؛ لأنها تحفظ الحق وتحافظ على المبادئ، وتُكَرِّمُ الإنسان وتشق طريقها في مشوار الدعوة إلى الله – عز وجل – الذي بدأ بالنموذج النبوي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: الآية 107]، فأي رقي فوق هذا الرقي؟ تلك الرحمة التي تشمل رحمة الهداية بالإنقاذ من المعيشة الضنق، والإنقاذ من الخسران في الآخرة، كما تشمل الإحسان إلى الخلق، تلك الرحمة التي هي سبب من أسباب رحمة الله للعبد في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقول بعض أهل العلم: “وكم من مذنب خطاء كثير الذنوب والعيوب سترها الله – عز وجل – بستره، وتولاه برحمته وشمله ببره، وغفر له ما كان من زللـه وخطئه بفضله – سبحانه وتعالى – ثم بإحسان العبد فيما بينه وبين الناس”.
حسن الخلق وأثره في التعامل مع الناس:
وهذه خصلة من خصال الخلق الحسن، التعاملُ مع الناس في شريعتنا، وجزء من التعامل مع الله – عز وجل – لأن التعامل مع الناس لا ينفك عن التكليف والتعبد لله، وحسن الخلق هو بوابة الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس، ويتحقق ثوابه بأن يقصد بذلك وجه الله – عز وجل – لأن هناك من الخلق من وهبهم الله حسن خلق، لكنهم لا ينالون ثوابه على ذلك في الآخرة، إما لعدم إسلامهم أصلا أو لعدم استحضارهم للنية في مثل هذا العمل، وفي الحديث: «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن خلق»(8)، وفي الحديث الآخر: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون»(9)، ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وفي الحديث الآخر: «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير في مَنْ يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس»(10)، ذكره في الجامع الصغير.
والأخلاق كما يصفها بعض أهل العلم: “عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة، ولكن قول سديد، وعمل صالح رشيد تعلم أن ورائه عبدا يرجو الوعد ويخاف الوعيد، وأحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء، واليتامى والثكالى، فالتواضع لهم يجلب رحمة الله – عز وجل – كذلك إدخال السرور عليهم، فمن سرهم سره الله يوم القيامة، وكذا تفقد عورات المسلمين والضفعة والمحتاجين، وفتح القلوب لهموهم وأحزانهم، واحتساب ذلك عند الله – عز وجل – فإنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولعل مالًا ينفقه العبد يحجبه الله – عز وجل – به عن النار، ولعل كربة يفرجها عن مسلم، يفرج الله بها عنه كربة يوم القيامة إذا احتسب ذلك عند الله.
وأكثر الناس حاجة إلى هذا الأمر هم الدعاة إلى الله – عز وجل – لأن الدعوة إلى الله – عز وجل – تحتاج من الداعية حسن التعامل والسياسة مع مَنْ يتعامل معه، وكذلك من يسير الله لهم المظهر الشرعي من الرجال والنساء في مظهرهم ولباسهم؛ حتى لا ينسب خطأهم إلى الدين وأهله، فيصبحون سببا في الصد عن سبيل الله وهم لا يشعرون، والتعامل مع الناس بالأساليب الشرعية مطلوب من كل مسلم، ولكن لهؤلاء أولوية لما ذكر من الأسباب.
فهذه قواعد أساسية تريح الإنسان، وتكسبه السعادة في نفسه والراحة في قلبه، والأنس بالتقرب إلى الله – عز وجل – بمثل هذه الروح التي ترحم، نتيجة حبها للمسلمين؛ لأن من يحب يرحم، ومن يَرحم يُرحم، وقد أشارت بعض الدراسات الغربية إلى هذا الجانب فقالوا: “لو تعلم الإنسان كيفية التعامل مع الآخرين، فإنه يكون بذلك قد قطع خمسة وثمانين في المائة من طريق النجاح، في أي من الأعمال أو الوظائف أو المهن، وتسعة وتسعين من طريق السعادة الشخصية”، والسعادة الشخصية هذه واضحة في النصوص التي أتت بالحث على أن ينام الإنسان وليس في نفسه غل على إخوانه من المسلمين، هناك عدد من القواعد أضيفها منها:
مراعاة الاختلاف بين الناس في الطبائع والنفسيات:
أولا مراعاة اختلاف الطبائع والنفسيات، فالناس منذ خلقهم الله – عز وجل – وهم مختلفوا الطبائع والرغبات والميول، روى مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»(11)، وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب»(12)، فمعاملة هذه الاختلافات معاملة واحدة لا تستقيم، فما يلائم هذا قد لا يناسب ذاك، وما يحسن مع هذا قد لا يجمل مع غيره، لذا قيل: “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”.
وقد كان شأنه صلى الله عليه وآله وسلم في تربية أصحابه وتعليمهم، يراعي أحوال من تعامل معه وينزل الناس منازلهم، ففي فتح مكة مثلا: «أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يعلن المنادي في الناس؛ أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»(13)، وما ميزة دار أبي سفيان إلا أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قد راعى نفس هذا العزيز الذي ربما شعر بالذل في هذا المقام، فأعطاه هذه الجرعة التي تقوي إيمانه وتحفظ صلته بالأمة، ومنها أيضا توزيعه صلى الله عليه وآله وسلم بعض أموال الغنائم والفيء على أناس من دون أناس، وكذلك تقسيمه الأعمال والمهام على أصحابه كل بحسبه، فما أوكل إلى حسان غير ما أوكل إلى معاذ، ويصح ذلك أيضا مع أبي بكر وعمر، وصهيب وخالد وبقية الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وما ذلك إلا لمعرفته صلى الله عليه وسلم بنفسيات الناس، وما يطيقون وما يحبون، ومعرفة أسباب الدخول إلى قلوبهم، فإن الله قد خلق الناس هكذا.
معاملة الناس من منطلق البشرية المحضة:
ثانيا من القواعد التعامل مع الناس على صفتهم البشرية، فالإنسان خلقه الله جسدا وروحا فلا يتعامل معه كما يتعامل مع الآلات، وإنما يتعامل معه إنسانا له روح وله مشاعر، ويرتب على هذه المشاعر قضايا كثيرة، ويرتب على هذه القضايا أحكاما شرعية، فالإنسان ليس آلة من الآلات، إنما هو إنسان بروحه وجسمه وعقله ومشاعره، وهو محتاج إلى تغذية هذه الأمور كلها، وبعض الناس يخطئون عندما يتعاملون مع الإنسان في الجانب الدعوي مثلا مع فكره فقط، دون أن يهتموا بمشاعره، ومن أصول ذلك في شريعتنا أمر الله – سبحانه وتعالى – لنا أن نلتزم الحكمة في التعامل مع الناس، وهذا عين العقل؛ لأن مراعاة أحوالهم تطلب ذلك قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة النحل: الآية 125]، وفي هذه الآية أمر عجيب، فإن الآية بينت مراعاة نفس المدعو، وفي نفس الوقت وضعت حاجزا أمام نفسية الداعي أن يتجاوز؛ لأنه يرى أن الذي أمامه لم يتغير في مسألة الهداية وعدمها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [سورة القصص: الآية 56]، وفي آخر هذه الآية: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة القصص: الآية 56]، إنما عليك البلاغ.
وكذلك من أصول هذا المعنى وهذه القاعدة قول الله – عز وجل: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [سورة آل عمران: الآية 159]، وكذلك قصة النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما: «راعى نفسية ذلك الأعرابي الذي أتى، ولعدم علمه بال في مؤخرة المسجد، فكان تعامل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – معه تعاملا عظيما وعجيبا»(14)، وفيه من الفوائد الشيء الكثير. فهذه القضية في الحقيقة من القضايا التي ربما تكون أحيانا عسيرة على النفوس؛ لأن المتعامل له أيضا مشاعر، والمتعامل معه له مشاعر، وغالبا يظهر هذا التشابك عندما يتعامل الشخص مثلا بطريق حسن فيقابل بإساءة، وهذا المعنى لشدته وصعوبته بيَّن الله – عز وجل – أمره وبيَّن هذه الصعوبة فيه في قول الله – تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [سورة فصلت: الآية 34]، فأن تقابل الإساءة بالحسنة، ليس أمرا سهلا ولذلك قال الله – عز وجل: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [سورة فصلت: الآية 35]، والله لو تعبدنا الله – عز وجل – بهذه الآية لقضينا على كثير من المشاكل، في علاقاتنا مع أقاربنا مع أرحامنا مع من حولنا، ومع موظفينا مع عمالنا مع جميع الناس مسلمهم وكافرهم، هذه الحقيقة تجعل هناك نوعا من العلاقة التي مبناها على ربط العاقبة بما في الآخرة عند الله، هذا الحظ العظيم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [سورة فصلت: الآية 35]، تحتاج صبرا وكظما للغيظ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [سورة آل عمران: الآية 134].
مشاعر تتصادم بين المتعامل والمتعامل معه، فهذه الحقيقة من أهم القواعد التي ينبغي مراعاتها، بل إن السلف – رحمهم الله – كانوا إذا وجدوا من أنفسهم ميلا إلى النقمة توقفوا عن الإنكار، وعن النصح حتى؛ لا يكون ما يفعلونه انتقاما لأنفسهم، لا تقربا إلى الله – عز وجل – وهذا غاية الفقه في مثل هذه الأمور.
تقدير الأحوال والفروق بين الناس:
ومن القواعد المهمة في التعامل، تقدير الأحوال والفروق، ففرق بين التعامل مع الأسوياء من الناس، والتعامل مع غيرهم؛ فالشواذ في السلوك يحتاجون إلى معاملة فردية خاصة، وهو فن له تخصصاته ويظهر ذلك جليا في جميع طبقات الناس، لكن لو ضربت مثالا مما هو بين الناس من ابتلوا بالإدمان مثلا، فهؤلاء ليس التعامل معهم كالتعامل مع غيرهم، فلا يفيد فيهم النصح عادة، وإنما يحتاجون إلى أن نساعدهم وإلى أن نعينهم، ولهذا السبب وجدت هناك المستشفيات المتخصصة لهم؛ لأن هذا يحتاج إلى أن نعينه بأشياء تتعلق بالجلسات الخاصة وبالعلاجات التي تساعده ماديا، حتى على التوازن الجسدي لديه، حتى يتقبل التخلص من هذه الأشياء التي أدمن عليها.
كذلك لا يعامل اللئيم معاملة الكريم وقديما قيل:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُوَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ الَّلئِيمَ تَمَرَّدَا
ومن هنا أتت الأحكام الشرعية التي فيها شدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [سورة التوبة: الآية 73] وغير ذلك من النصوص التي تشير إلى هذا المعنى أيضا في إطار ضوابطه الشرعية.
مراعاة اختلاف العلا قات بين المتعامل والمتعامل معهم من الناس:
كذلك تختلف طريقة التعامل تبعا لاختلاف العلاقة؛ كالوالد مع ولده والزوج مع زوجته، والرئيس مع مرؤوسه إلى آخره، كذلك التعامل يتغير باختلاف الأفهام والعقول؛ فالرجل الذكي الفاهم الواعي، تختلف طريقة تعامله عن الشخص الآخر المحدود العقل أو الثقافة، كذلك يختلف أسلوب التعامل باختلاف الشخصية؛ فطريقة التعامل مع شخص كثير الشكوك والحساسية، تختلف عن التعامل مع شخص دون ذلك، وهذه أمور ينبغي أن تراعى دائما، وأن تدرس حالة الشخص الذي يُراد التعامل معه، قبل أن يصطدم الإنسان بأشياء قد تعقد نوعية هذا التعامل.
بعض الأسباب التي تؤدي إلى سوء التعامل مع الناس:
الجهل:
من أهم الأسباب أو من أخطر الأسباب الجهل، فإن من جهل شيئا عاداه، وكثير من الناس لا يحسن التعامل مع الآخرين؛ لأنه يجهل ذلك، والعلم يجعل المرء المسلم يتبين ويتبصر ويفهم كيف يتعامل مع الآخرين، أما الجاهل فستجده قد ينفر الآخرين حتى من عمله قد ذكرنا: «قضية قصة بول الأعرابي»(15) وكيف أن الذين انتهروه لو بقوا على هذا الانتهار ولم يوجههم النبي – صلى الله عليه وسلم – ماذا تكون النتيجة؟
أولا: الدكتور صالح بن سعد السحيمي
القواعد التي يصار إليها في التعامل مع الناس
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أسباب أهمية الموضوع:
فهذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن مسألة التعامل مع الناس تشمل التعامل مع جميع البشر الذين قد يكون منهم المسلم والكافر والمنافق، والذمي والمعاهد والمستأمن والمحارب، وقد يكون من المسلمين السني والمبتدع ومَنْ بِدَعُهُ غليظة ومركبة، ومَنْ بِدَعُهُ يسيرة. وكل يحتاج إلى معاملة بحسب ما يقتضيه مقام الحال، وقد أمر الله – عز وجل – بحسن التعامل مع الآخرين، كيف لا وهو الذي وصف الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم – في قوله – تبارك وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [سورة آل عمران: الآية 159]، وفي مثل قوله – عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة النساء: الآية 94]، وكذا قوله سبحانه – في وصف نبيه – صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة: الآية 128]، وقوله – جل وعلا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم: الآية 4].
وقد أمر الله – عز وجل – نبييه ورسوليه موسى وهارون – عليهما السلام – وهما يقابلان أعتى مجرم على وجه الأرض، أمرهما أن يلينا القول معه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه: الآية 44]، ويوجد من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – نماذج كثيرة في هذا السبيل، منها موقفه حين لقي قريشا يوم فتح مكة، وكانوا يظنون أنه سينتقم منهم فقال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء» (1)، والنماذج كثيرة منها تعامله مع أصحابه، وتعامله مع المعاهدين ومنه زيارته إلى ذلكم الغلام اليهودي، والذي كان سببا في إسلامه عندما جاء ودعاه إلى الإسلام بعد أن مرض، فنظر إلى أبيه وكأنه يستأذنه فقال له: «أطع أبا القاسم فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله»(2)، فكان أنموذج عظيما في حسن التعامل مع الآخرين كل بحسبه.
قواعد في التعامل مع الناس:
إنصاف المخالف والعدل معه:
من تلك القواعد إنصاف المخالف والعدل معه وعدم ظلمه مهما كان، فالعدل مطلوب مع جميع المخالفين، حتى مع الكفار يقول الله – جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [سورة المائدة: الآية 8]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [سورة النساء: الآية 135]، ويقول جل وعلا: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [سورة النساء: الآية 58]، ويقول جل وعلا: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ [سورة الأنعام: الآية 152]، فلا بد من إنصاف المخالف، حتى لو أردت أن تبين له ما عنده أو ترد عليه لا بد من الإنصاف، فالإنصاف وتوخي العدل لا بد من مراعاته.
مراعاة جلب المصالح ودفع المضار:
القاعدة الثانية لا بد من مراعاة جلب المصالح ودفع المضار، حتى ولو بارتكاب أدنى المفسدتين من أجل إحداهما، والمهم هو أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ بأن يوازن المرء عندما يريد أن يعامل الآخرين، أو يتعامل مع الآخرين بين المصلحة والمفسدة، فيسلك الأسلوب المناسب الذي يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وهذا أمر قد سلكه النبي – صلى الله عليه وسلم – في تعامله مع الآخرين، يدلل على ذلك كثير من الوقائع والعقود التي عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الآخرين، حتى ولو كان في هذه العقود والمعاهدات حيف أحيانا على المسلمين.
معرفة لغة المتكلم وسماع رأيه:
ومن القواعد أيضا التي تنبغي مراعاتها، معرفة لغة المتكلم وحقيقة رأيه؛ لئلا يظلم أو يحمل قوله على غير وجه الصواب؛ لأن فهم المراد أمر في غاية الأهمية، وربما وقعت كثير من المصائب بسبب عدم فهم المراد، أو بسبب كلمة غير مفهومة، وربما حصلت الحروب والمفاسد بسبب كلمة، فلا بد من معرفة لغة المتكلم ومعرفة مراده، وإذا كان كلامه يَحْتَمِلُ أكثر من وجه فلنحمله على الوجه الحسن.
ضرورة التثبت من الأقوال:
القاعدة الرابعة التثبت من الأقوال، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [سورة الحجرات: الآية 6]، فالمسلم يجب عليه أن يتثبت من الأمور، وألا يتسرع في تصديق الشائعات أو نشرها بين الناس، لاسيما وأن نشرها قد يؤدي إلى فتن خطيرة ربما تؤدي إلى مفاسد لا تحمد عقباها.
التخلص من سلطة الأتباع:
كذلك من المسائل المهمة في التعامل مع الناس، التخلص من سلطة الأتباع، فكثيرا ما تحصل المفاسد في التعاملات بسبب تسلط بعض الأتباع على المتبوعين، هذا في غياب المسؤل وغفلته، بل ربما ينقلون إليه كلاما غير واقع، أو يصورون له الأمر صورة تهيجه وتجعله يتفاعل مع الموقف، ويبالغ في الموضوع ويُحَمِّلُ المسألةَ مالم تحتمل، فالأتباع قد يوقعون متبوعَهُمْ في أمور خطيرة، فيجب على هذا المتبوع أو المتكلم أن يتثبت وأن يتأكد من الأقوال، وهذا يتضح ويتعلق بالقاعدة السادسة وهي:
لزوم آداب الشرع مع المخالف:
لزوم آداب الشرع مع المخالف، وهذا يندرج تحته أمور، الأمر الأول:
حسن الظن؛ لأن الأصل في المسلم السلامة، يقول الله – سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [سورة الحجرات: الآية 12]، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»(4).
ومن ذلك الخضوع للحق الذي نطق به الخصم فالحق يقبل ممن جاء به، ولنا عبرة في قبول أبي هريرة لِمَا قاله ذلكم الشيطان الذي جاءه، والذي قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه: «صدقك وهو كذوب»(5)، فالحق يقبل ممن جاء به، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في هذا المعنى: “ما ناظرت من أحد إلا قلت: اللهم أَجْرِ الحق على لسانه وقلبه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته”.
ومن ذلك الستر على المخطئ دون أن يذكر اسمه، إذا كان الأمر يتطلب ذلك في بعض الأحوال، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة»(6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»(7).
ومن الوسائل أيضا، البحث في الوسائل لتجاوز الافتراق والاختلاف وللتعامل مع الآخرين؛ فإن الاتفاق عمل وليس قولا، ومن سلك طريق الاتفاق وقَصَدَهُ فإن الله يوفقه، قال الله – جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سورة العنكبوت: الآية 69]، ويمكن تفعيل هذه الوسائل، بالرجوع إلى أهل العلم الذين يفصلون في الخلاف.
ومنها سلامة المقصد وكثرة الاستفسار والنقاش واللقاء للوصول إلى الحق، ومنها أيضا الجد والاجتهاد في نشر الآداب، ونشر الكلام عن أدب الاختلاف؛ حتى يفهمه الآخرون، فإن من سنة الله – سبحانه وتعالى – أن جعلهم مختلفين، قال الله جل وعلا:﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة هود: الآية 118- 119]، قد يكونون مختلفين في ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وعواطفهم وعقولهم وميولهم وكثير من أمورهم، وكذلك في آراءهم ونظراتهم.
الجد والاجتهاد في سلامة القلب وطهارته من الأحقاد والأضغان؛ لأن سلامة القلب في غاية الأهمية للمسلم، فعلى المسلم أن يتجرد لله – سبحانه وتعالى – حتى لا يقع في المخالفات الشرعية، و حتى لا يظلم الآخرين ويتعامل معهم على غير هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – والقواعد كثيرة والمسائل كثيرة أكثر من أن تحصر.
ثانياً :الدكتور سعد بن مطر العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لا شك أن موضوع الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس موضوع مهم جدا، لأنه من الموضوعات التي لا يكفي فيها العلم بها، بل لا بد من توطين النفس وتدريبها عليه، مع الاستمرار في تثقيف العقل بها، حتى تعتادها النفس وتتفاعل معها تفاعلا إيجابيا، وكثير من أساليب التعامل مع الناس لا تتأتى لدى الناس إلا بالتجربة، أما بالنسبة لنا نحن المسلمين فإن أسسها وقواعدها قد جاءت في الوحي، من كتاب وسنة.
والحقيقة أن هذا الأمر، أمر التعامل مع الناس مما يؤرق عقلاء الناس في العالم، ولذلك نجد هناك مؤلفات عند غير المسلمين أُلِّفَتْ في هذا الموضوع، يتعلمونه ويسجلون تجاربهم فيه، بل هناك معاهد متخصصة للتدريب على التعامل مع الناس فيما يعرف بمهارات الاتصال والتنمية البشرية، وهذا يؤكد أهمية هذا الأمر.
وبالنسبة لعلمائنا وتراثنا سنجد أن هناك الكثير من الكتابات والاهتمام والتدريب العملي أيضا، فنجد مثلا أن علمائنا قد تكلموا عن هذا الأمر في موضوعات، مثل آداب الصحبة وآداب العشرة وآداب الحديث، وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك مؤلفات في الآداب الشرعية تكشف وتبين هذه الأمور أيضا، كل هذا إضافة إلى ما هو موجود من شروح أو تفاسير للنصوص القرآنية، وشروح للأحاديث والسيرة النبوية سيرة محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي كان خلقه القرآن، ومن يتأمل نصوص القرآن الكريم يجد الأمر واضحا، لكنه ليس سهلا، وهذه الحقيقة أكدها الله – عز وجل – فقال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [سورة فصلت: الآية 35].
و ليس هناك أحكم ولا أرقى من الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس؛ لأنها تحفظ الحق وتحافظ على المبادئ، وتُكَرِّمُ الإنسان وتشق طريقها في مشوار الدعوة إلى الله – عز وجل – الذي بدأ بالنموذج النبوي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: الآية 107]، فأي رقي فوق هذا الرقي؟ تلك الرحمة التي تشمل رحمة الهداية بالإنقاذ من المعيشة الضنق، والإنقاذ من الخسران في الآخرة، كما تشمل الإحسان إلى الخلق، تلك الرحمة التي هي سبب من أسباب رحمة الله للعبد في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقول بعض أهل العلم: “وكم من مذنب خطاء كثير الذنوب والعيوب سترها الله – عز وجل – بستره، وتولاه برحمته وشمله ببره، وغفر له ما كان من زللـه وخطئه بفضله – سبحانه وتعالى – ثم بإحسان العبد فيما بينه وبين الناس”.
حسن الخلق وأثره في التعامل مع الناس:
وهذه خصلة من خصال الخلق الحسن، التعاملُ مع الناس في شريعتنا، وجزء من التعامل مع الله – عز وجل – لأن التعامل مع الناس لا ينفك عن التكليف والتعبد لله، وحسن الخلق هو بوابة الأساليب الشرعية في التعامل مع الناس، ويتحقق ثوابه بأن يقصد بذلك وجه الله – عز وجل – لأن هناك من الخلق من وهبهم الله حسن خلق، لكنهم لا ينالون ثوابه على ذلك في الآخرة، إما لعدم إسلامهم أصلا أو لعدم استحضارهم للنية في مثل هذا العمل، وفي الحديث: «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن خلق»(8)، وفي الحديث الآخر: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون»(9)، ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وفي الحديث الآخر: «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير في مَنْ يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس»(10)، ذكره في الجامع الصغير.
والأخلاق كما يصفها بعض أهل العلم: “عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة، ولكن قول سديد، وعمل صالح رشيد تعلم أن ورائه عبدا يرجو الوعد ويخاف الوعيد، وأحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء، واليتامى والثكالى، فالتواضع لهم يجلب رحمة الله – عز وجل – كذلك إدخال السرور عليهم، فمن سرهم سره الله يوم القيامة، وكذا تفقد عورات المسلمين والضفعة والمحتاجين، وفتح القلوب لهموهم وأحزانهم، واحتساب ذلك عند الله – عز وجل – فإنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولعل مالًا ينفقه العبد يحجبه الله – عز وجل – به عن النار، ولعل كربة يفرجها عن مسلم، يفرج الله بها عنه كربة يوم القيامة إذا احتسب ذلك عند الله.
وأكثر الناس حاجة إلى هذا الأمر هم الدعاة إلى الله – عز وجل – لأن الدعوة إلى الله – عز وجل – تحتاج من الداعية حسن التعامل والسياسة مع مَنْ يتعامل معه، وكذلك من يسير الله لهم المظهر الشرعي من الرجال والنساء في مظهرهم ولباسهم؛ حتى لا ينسب خطأهم إلى الدين وأهله، فيصبحون سببا في الصد عن سبيل الله وهم لا يشعرون، والتعامل مع الناس بالأساليب الشرعية مطلوب من كل مسلم، ولكن لهؤلاء أولوية لما ذكر من الأسباب.
فهذه قواعد أساسية تريح الإنسان، وتكسبه السعادة في نفسه والراحة في قلبه، والأنس بالتقرب إلى الله – عز وجل – بمثل هذه الروح التي ترحم، نتيجة حبها للمسلمين؛ لأن من يحب يرحم، ومن يَرحم يُرحم، وقد أشارت بعض الدراسات الغربية إلى هذا الجانب فقالوا: “لو تعلم الإنسان كيفية التعامل مع الآخرين، فإنه يكون بذلك قد قطع خمسة وثمانين في المائة من طريق النجاح، في أي من الأعمال أو الوظائف أو المهن، وتسعة وتسعين من طريق السعادة الشخصية”، والسعادة الشخصية هذه واضحة في النصوص التي أتت بالحث على أن ينام الإنسان وليس في نفسه غل على إخوانه من المسلمين، هناك عدد من القواعد أضيفها منها:
مراعاة الاختلاف بين الناس في الطبائع والنفسيات:
أولا مراعاة اختلاف الطبائع والنفسيات، فالناس منذ خلقهم الله – عز وجل – وهم مختلفوا الطبائع والرغبات والميول، روى مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»(11)، وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب»(12)، فمعاملة هذه الاختلافات معاملة واحدة لا تستقيم، فما يلائم هذا قد لا يناسب ذاك، وما يحسن مع هذا قد لا يجمل مع غيره، لذا قيل: “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”.
وقد كان شأنه صلى الله عليه وآله وسلم في تربية أصحابه وتعليمهم، يراعي أحوال من تعامل معه وينزل الناس منازلهم، ففي فتح مكة مثلا: «أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يعلن المنادي في الناس؛ أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»(13)، وما ميزة دار أبي سفيان إلا أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قد راعى نفس هذا العزيز الذي ربما شعر بالذل في هذا المقام، فأعطاه هذه الجرعة التي تقوي إيمانه وتحفظ صلته بالأمة، ومنها أيضا توزيعه صلى الله عليه وآله وسلم بعض أموال الغنائم والفيء على أناس من دون أناس، وكذلك تقسيمه الأعمال والمهام على أصحابه كل بحسبه، فما أوكل إلى حسان غير ما أوكل إلى معاذ، ويصح ذلك أيضا مع أبي بكر وعمر، وصهيب وخالد وبقية الصحابة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وما ذلك إلا لمعرفته صلى الله عليه وسلم بنفسيات الناس، وما يطيقون وما يحبون، ومعرفة أسباب الدخول إلى قلوبهم، فإن الله قد خلق الناس هكذا.
معاملة الناس من منطلق البشرية المحضة:
ثانيا من القواعد التعامل مع الناس على صفتهم البشرية، فالإنسان خلقه الله جسدا وروحا فلا يتعامل معه كما يتعامل مع الآلات، وإنما يتعامل معه إنسانا له روح وله مشاعر، ويرتب على هذه المشاعر قضايا كثيرة، ويرتب على هذه القضايا أحكاما شرعية، فالإنسان ليس آلة من الآلات، إنما هو إنسان بروحه وجسمه وعقله ومشاعره، وهو محتاج إلى تغذية هذه الأمور كلها، وبعض الناس يخطئون عندما يتعاملون مع الإنسان في الجانب الدعوي مثلا مع فكره فقط، دون أن يهتموا بمشاعره، ومن أصول ذلك في شريعتنا أمر الله – سبحانه وتعالى – لنا أن نلتزم الحكمة في التعامل مع الناس، وهذا عين العقل؛ لأن مراعاة أحوالهم تطلب ذلك قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة النحل: الآية 125]، وفي هذه الآية أمر عجيب، فإن الآية بينت مراعاة نفس المدعو، وفي نفس الوقت وضعت حاجزا أمام نفسية الداعي أن يتجاوز؛ لأنه يرى أن الذي أمامه لم يتغير في مسألة الهداية وعدمها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [سورة القصص: الآية 56]، وفي آخر هذه الآية: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة القصص: الآية 56]، إنما عليك البلاغ.
وكذلك من أصول هذا المعنى وهذه القاعدة قول الله – عز وجل: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [سورة آل عمران: الآية 159]، وكذلك قصة النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما: «راعى نفسية ذلك الأعرابي الذي أتى، ولعدم علمه بال في مؤخرة المسجد، فكان تعامل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – معه تعاملا عظيما وعجيبا»(14)، وفيه من الفوائد الشيء الكثير. فهذه القضية في الحقيقة من القضايا التي ربما تكون أحيانا عسيرة على النفوس؛ لأن المتعامل له أيضا مشاعر، والمتعامل معه له مشاعر، وغالبا يظهر هذا التشابك عندما يتعامل الشخص مثلا بطريق حسن فيقابل بإساءة، وهذا المعنى لشدته وصعوبته بيَّن الله – عز وجل – أمره وبيَّن هذه الصعوبة فيه في قول الله – تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [سورة فصلت: الآية 34]، فأن تقابل الإساءة بالحسنة، ليس أمرا سهلا ولذلك قال الله – عز وجل: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [سورة فصلت: الآية 35]، والله لو تعبدنا الله – عز وجل – بهذه الآية لقضينا على كثير من المشاكل، في علاقاتنا مع أقاربنا مع أرحامنا مع من حولنا، ومع موظفينا مع عمالنا مع جميع الناس مسلمهم وكافرهم، هذه الحقيقة تجعل هناك نوعا من العلاقة التي مبناها على ربط العاقبة بما في الآخرة عند الله، هذا الحظ العظيم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [سورة فصلت: الآية 35]، تحتاج صبرا وكظما للغيظ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [سورة آل عمران: الآية 134].
مشاعر تتصادم بين المتعامل والمتعامل معه، فهذه الحقيقة من أهم القواعد التي ينبغي مراعاتها، بل إن السلف – رحمهم الله – كانوا إذا وجدوا من أنفسهم ميلا إلى النقمة توقفوا عن الإنكار، وعن النصح حتى؛ لا يكون ما يفعلونه انتقاما لأنفسهم، لا تقربا إلى الله – عز وجل – وهذا غاية الفقه في مثل هذه الأمور.
تقدير الأحوال والفروق بين الناس:
ومن القواعد المهمة في التعامل، تقدير الأحوال والفروق، ففرق بين التعامل مع الأسوياء من الناس، والتعامل مع غيرهم؛ فالشواذ في السلوك يحتاجون إلى معاملة فردية خاصة، وهو فن له تخصصاته ويظهر ذلك جليا في جميع طبقات الناس، لكن لو ضربت مثالا مما هو بين الناس من ابتلوا بالإدمان مثلا، فهؤلاء ليس التعامل معهم كالتعامل مع غيرهم، فلا يفيد فيهم النصح عادة، وإنما يحتاجون إلى أن نساعدهم وإلى أن نعينهم، ولهذا السبب وجدت هناك المستشفيات المتخصصة لهم؛ لأن هذا يحتاج إلى أن نعينه بأشياء تتعلق بالجلسات الخاصة وبالعلاجات التي تساعده ماديا، حتى على التوازن الجسدي لديه، حتى يتقبل التخلص من هذه الأشياء التي أدمن عليها.
كذلك لا يعامل اللئيم معاملة الكريم وقديما قيل:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُوَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ الَّلئِيمَ تَمَرَّدَا
ومن هنا أتت الأحكام الشرعية التي فيها شدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [سورة التوبة: الآية 73] وغير ذلك من النصوص التي تشير إلى هذا المعنى أيضا في إطار ضوابطه الشرعية.
مراعاة اختلاف العلا قات بين المتعامل والمتعامل معهم من الناس:
كذلك تختلف طريقة التعامل تبعا لاختلاف العلاقة؛ كالوالد مع ولده والزوج مع زوجته، والرئيس مع مرؤوسه إلى آخره، كذلك التعامل يتغير باختلاف الأفهام والعقول؛ فالرجل الذكي الفاهم الواعي، تختلف طريقة تعامله عن الشخص الآخر المحدود العقل أو الثقافة، كذلك يختلف أسلوب التعامل باختلاف الشخصية؛ فطريقة التعامل مع شخص كثير الشكوك والحساسية، تختلف عن التعامل مع شخص دون ذلك، وهذه أمور ينبغي أن تراعى دائما، وأن تدرس حالة الشخص الذي يُراد التعامل معه، قبل أن يصطدم الإنسان بأشياء قد تعقد نوعية هذا التعامل.
بعض الأسباب التي تؤدي إلى سوء التعامل مع الناس:
الجهل:
من أهم الأسباب أو من أخطر الأسباب الجهل، فإن من جهل شيئا عاداه، وكثير من الناس لا يحسن التعامل مع الآخرين؛ لأنه يجهل ذلك، والعلم يجعل المرء المسلم يتبين ويتبصر ويفهم كيف يتعامل مع الآخرين، أما الجاهل فستجده قد ينفر الآخرين حتى من عمله قد ذكرنا: «قضية قصة بول الأعرابي»(15) وكيف أن الذين انتهروه لو بقوا على هذا الانتهار ولم يوجههم النبي – صلى الله عليه وسلم – ماذا تكون النتيجة؟
تعليق